الالتفات في القرآن الكريم : سر الإعجاز البلاغي وجمال التحول البياني
أبريل 28, 2025أثر عموم البلوى في الحكم على أخبار الآحاد
أبريل 28, 2025دراسات وأبحاث :
هُوية اللغة العربية ودورها في وِحدة الأمة الإسلامية
بقلم : الباحث صابر علي شيخ العمري *
إن اللغة العربية تربط بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها برباط فكري ولفظي ممتد من الرسالة المحمدية ومعجزاته الخالدة المتمثلة في نزول القرآن الكريم ، ولا شك أن القرآن الكريم هو أول أصل من أصول وحدة الأمة في دينها وهُويتها ولسانِها ، وقد وصفه الله تعالى بالمبين ، حيث قال : ( وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) [ سورة النحل : 103 ] ، وإن خدمة هذا الكتاب الذي نزل باللسان العربيّ المبين من أول الأهداف التي يتطلع إليها مَنْ استنارَ قلبُه بنور الإيمان .
تعتبر الهوية الإسلامية بجوانبها الدينية واللغوية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية ، من أهم عواملها جمع كلمة المسلمين ، وتوحيد رايتهم ، فمنذ فجر الإسلام لم يعرف المسلمون عاملاً مشتركاً أعظم من الهوية الإسلامية ، فقد كانوا أصحاب حضارة واحدة رغم اختلاف أحوالهم عروبةً وعجميةً ، وعلماً وجهلاً ، وغنىً وفقراً .
أما دور اللغة العربية في تحقيق صفة الإسلامية فهي أن اللغة – أي لغة – ليست مجرد أصوات وألفاظ ، ولكن اللغة لسان ثقافة وسياج هوية ، فنشر اللغة سيتبعه بالضرورة نشرُ الثقافة الإسلامية التي ستضيئ الطريق أمام الشعوب الإسلامية الباحثة عن هويتها الآن بشكل واضح ظاهر ، خصوصاً بعد تيارات الهويات البديلة ، التي فرضت عليها القومية والأممية والاشتراكية وغيرها .
أما وحدة هذه الأمة فقد تحققت في القديم من وحدة الدين ووحدة اللسان ومن ثم وحدة الثقافة والفكر ، ووحدة التصور والشعور والوجدان .
نحاول بهذا المقال على تسليط الضوء على إبراز عالمية اللغة العربية ودورها المحوري في الحفاظ على الهوية الإسلامية ، ووحدة الأمة الإسلامية ، والتحديات التي تواجهها اللغة العربية وسبل معالجتها :
طبيعة اللغة العربية ووظيفتها الاجتماعية :
تنبّه ابن جني رحمه الله إلى طبيعة اللغة ، ووضع حد لها ، حيث قال في باب القول على اللغة وما هي ؟ أما حدها فإنها أصوات يعبر كل قوم عن أغراضها [1] . وقد علق الدكتور محمود فهمي حجازي [2] على هذا التعريف بقوله : ” هذا تعريف دقيق ، يذكر كثير الجوانب المميزة للغة أكد ابن جني أولاً ، الطبيعة الصوتية للغة ، كما ذكر وظيفتها الاجتماعية في التعبير ونقل الفكر . وذكر أيضاً أنها تستخدم في مجتمع ، فلكل قوم لغتهم [3] . وقد ذهب الباحثون المحدثون إلى تعريفات مختلفة للغة العربية كلها تؤكد الطبيعة الصوتية للغة ، والوظيفة الاجتماعية لها ، وتنوع البيئة اللغوية من مجتمع إنساني لآخر ، من هؤلاء اللغويين :
(1) فردينان دي سوسير Ferdinand De Saussure [4] عرف اللغة أنها نظام من الإشارات التي تعبر عن الأفكار [5] أي أن لها مساراً محدداً من الرموز المكتوبة والإشارات التي تقابل الأصوات المنطوقة .
(2) وجورج ليونارد تراجر George Leonard Trager [6] عرف اللغة بأنها نظام من الرموز الاجتماعية المنطوقة المتعارف عليها ، وهي رموز صوتية ، يتفاعل بواسطتها أفراد مجتمع ما في ضوء الأشكال الثقافية الكلية عندهم [7] .
فالتفاعل ( INTARACTION ) هنا هو الهدف ، والتفاعل كما نعلم درجةً أعلى من الاتصال ، لأنه لا يحقق المشاركة بمجموعة من الحواس ، كالرؤية والسمع ، فإذا كان الاتصال مجرد نقل فكرة من طرف إلى آخر ، فإن التفاعل يعني المشاركة الوجدانية ، وهي تمثل درجةً أكبر من الاتصال ويتعدى حدوده لذلك نستطيع أن نقول : إنّ اللغة حديثاً هي نظام متكامل مكوّن من مجموعة عناصر ، هي المكوّنات الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية والرمزية المعبّرة عن فكر الإنسان ، وحالته النفسية والوجدانية ، وهي مكتسبة نامية متطورة بتطور الإنسان ، ولذلك يرى البعض أن اللغة تشبه الكائن الحي ، فهي تتنفس وتنمو وتكبر وتترعرع وتشبّ وتشيخ ، وقد تموت إذا لم تتوفر لها عوامل الديمومة والبقاء والاستمرارية ، وكل ذلك مرهون بتغير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية ، فعند ما يتطور المجتمع فكرياً وحضارياً وإنتاجياً ، تتطور اللغة والعكس ، ولذلك نجد أن اللغة في البيئة البدوية من حيث استخدام الأساليب تختلف عنها في المدينة الحضارية .
إن اللغة العربية هي من أقدم اللغات وأغناها على الإطلاق ، لأن أول إنسان آدم عليه السلام على القول الراجح تكلم بالعربية ، وذلك استنباطاً من نصوص القرآن عند المفسرين ، والأحاديث التي جاءت عن خلق أبينا آدم عليه السلام . فقد علم الله تعالى آدم الأسماء كلها حيث قال الله تعالى : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) [8] . ثم جاء في الحديث أنه لما نفخ الله تعالى الروح في جسد آدم عطس آدم ثم قال : الحمد لله . ثم علمه الله تعالى كيف يلقي السلام على الملائكة فحياهم بقوله السلام عليكم [9] .
فهذان اللفظان ” الحمد لله والسلام عليكم ” عربيان أصيلان ، ما يدل على عربية لسان أبينا الأول .
قال ابن حزم : ولا ندري أي لغة هي التي وقف آدم عليه السلام عليها أولاً ، إلا أننا نقطع على أنها أتم اللغات كلها ، وأبينها عبارةً ، وأقلها إشكالاً ، وأشدها اختصاراً ، وأكثرها وقوع أسماء مختلفة على المسميات كلها المختلفة من كل ما في العالم من جوهر ، أو عرض [10] .
عالمية اللغة العربية :
وكانت اللغة العربية قد بلغت قبل البعثة المحمدية أوج كمالها في التعبير البليغ السامي عن جميع مقوّمات الحياة ، وتربعت على ذروة المجد في الفصاحة والبلاغة والنتاج الأدبي شعراً ونثراً ، وظهرت روائع إنتاجها في الأشعار والأمثال والقصص والحكم والخطب ، وبهذا التوصيف أستطيع أن أقول بأنها شاعت العربية على أنها لغة قومية ، فوحّدت كيان العرب في شبه الجزيرة العربية ، وميزتهم عن غيرهم من الشعوب والقبائل ومع نزول القرآن بهذه اللغة ، ارتفع شأنها ، وأصبحت اللغة السائدة في بلاد العرب والمسلمين كافّةً .
وإن للغة العربية فضلاً كبيراً على نشر حضارة الفكر العربي الإسلامي ، وتقدم العلوم والفنون المتنوعة والآداب المختلفة ، ولأجل القرآن الخالد ظهرت علوم القرآن كلها ، كما ظهرت علوم اللغة والنحو والصرف ، والبلاغة التي كانت أساساً لتفسير نصوص القرآن الكريم ، والحديث النبوي الشريف ليسهل فهمها ، وتبين مقاصدها ، ومن أجله أيضاً ظهرت علوم منهجية ، مثل علوم التاريخ والأخبار والأسانيد وغيرها ، كما تقدمت تطبيقاً لتعاليم القرآن والحديث علوم كثيرة ، مثل الرحلات والجغرافيا والسير ، واستحدثت علوم الطب والكيمياء والاجتماع وعلوم أخرى تابعة لدراسة القرآن والحديث ، مثل التجويد والتلاوة والدراية والرواية ، إلى جانب علوم عديدة إسلامية [11] ، وبهذا التوصيف انتقلت اللغة العربية من القومية القُطرية إلى الكونية العالمية ، ولنا أن نتأمل في هذه الآيات القرآنية ( وَمَا أرْسَلْناكَ إلَّا رَحْمةً لِّلْعالمِيْنَ ) [12] ، وقوله تعالى : ( وَمَا أرْسَلْنَاكَ إلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيْرًا وَلَكِنَّ أكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُوْنَ ) [13] ، وقوله سبحانه تعالى : ( وَأرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُوْلًا ) [14] .
ولأسرار وحكم بالغة يعلمها خالق البشر ، حيث اختار الله سبحانه وتعالى هذه اللغة وعاء لكتابه الخالد ، كما أشار إليه قوله : ( وإنَّهُ لَتَنْزِيلُ ربِّ الْعَالَمِينَ . نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأمِينُ . علَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرينَ . بِلِسَانٍ عَربيٍ مُبِينٍ ) [15] .
كل هذه الآيات تشير إلى عالمية اللغة العربية ، بعد أن كانت توصف بأنها لغة قومية ، وذلك بفضل انتشار الفتوحات الإسلامية شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً ، ودخول الناس في دين الله أفواجاً ، الأمر الذي يحتم عليهم تعلم اللغة العربية ، حتى يستطيعوا فهم دينهم الإسلامي الجديد وتعاليمه السمحة البيضاء ، ونستنبط عالمية اللغة العربية من خلال ربط دلالة الآيات بعضها ببعض ، فكل نبي أو رسول جاء بلسان قومه ، وهو مخصوص في زمان ومكان محددين ، إلا رسول الله محمداً خاتم الأنبياء والمرسلين ورسول العالمين ، الذي جاء بلسان العالمين ، فكان رحمةً للعالمين ، وأرسل للناس كافةً ، فالزمان والمكان مفتوح لا نهاية له إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، فإن اللغة العربية تتجاوز الحدود والسدود والقيود ، والأجناس والأعراق والألوان ، للزومها أصلاً لأداء المناسك الدينية ، كالصلاة التي لا تصح إلا بتلاوة القرآن ، وتلاوة القرآن لا تصح إلا باللغة العربية ، ويتضح من هذا مدى حيوية اللغة العربية ، معظم طاقتها ، ولما تمتاز به من قوة بيانها ، وأصالة ألفاظها وأصواتها ، وموسيقى كلماتها ، ووفرة مفرداتها ، وجمّة معانيها .
تقول عائشة بنت الشاطئ : ” ليست اللغة العربية كمجرد مادة يتعلمها التلميذ ، ويؤدي الامتحان فيها بمستوى ، أو بآخر ، ولكنها مجلي أصالته ، ولسان قوميّته ، الذي يصله بتاريخ أمته ، وتراث آبائه وأجداده ، ويتجاوب به فكرياً مع أبناء وطنه . . . . . ” [16] .
ولما كانت العلوم الإسلامية كلها تقوم على المبادئ القرآنية والسُنّة النبوية فلا بدّ أن نغترفها من مناهلها الفيّاضة الأصلية ، من النصوص القرآنية والسنة النبوية ، فلا يتحقّق هذا الهدف المنشود إلاّ عن طريق اللغة العربية التي هي وعاؤهما الأصلي ، وإذا رجعنا إلى نصوص القرآن وجدنا أن اللغة العربية هي مركز الانطلاق إلى رياض القرآن ، إذ جاء فيه : ( إِنَّا أنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيَّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُوْنَ ) [17] ، وأيضاً ( كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا لِقَوْمٍ يَّعْلَمُوْنَ ) [18] ، وقال تعالى أيضاً : ( أفَلَا يَتَدَبَّرُوْنَ الْقُرْآنَ أمْ علَى قُلُوْبٍ أَقْفَالُهَا ) [19] .
لا يخفى على ذي لبّ ما للغة العربية من أهمية عظمى ، في كونها لغة كتاب الله العزيز والسنة النبوية المطهرة ، وكونها جزءاً من ديننا الحنيف ، بل لا يمكن أن يقوم الإسلام إلا بها ، ولا يصح أن يقرأ القرآن إلا بالعربية ، وقراءة القرآن عبادة وركن من أركان الصلاة التي هي ركن من أركان الإسلام .
وإن خدمة كتاب الله العزيز والحديث النبوي الشريف اللّذَين نزلا باللسان العربي المبين ، من أول الأهداف التي يتطلع إليها من استنار قلبه بنور الإيمان . ولهذا عني كثير من العلماء في مختلف العصور بتناول أسلوبه بالدراسات اللغوية بكل مستوياتها ، الصوتية ، والصرفية ، والنحوية ، والبلاغية ، والدلالية ، والأسلوبية ، والكتابية . فتنورت دراساتهم بأنوار الكتاب والسنة ، وتعطرت بنفحات شذا أسرارهما ، إذ هما في مضمار الفصاحة والبلاغة يعتليان الذروة ، ويتربعان على القمة . وهما المرجع الصادق الذي يرجع إليه العلماء لمعرفة الصواب والخطأ في قواعدهم ، وقضاياهم التي تحدد مصير وحدة الأمة الإسلامية .
إن اللغة العربية تربط بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها برباط فكري ولفظي ممتد من الرسالة المحمدية ومعجزاته الخالدة المتمثلة في نزول القرآن الكريم ، لأن القرآن ليس مجرد مبادئ ، وتعاليم منعزلة عن الظاهر اللفظي ، بل إن إعجاز القرآن منوط باللغة العربية ، وإن اللغة العربية ، بطاقتها وغزارتها وثرائها وتراثها لجديرة بأن تكون وسيلة للتفاهم والترابط بين الشعوب المسلمة في كل مكان وزمان ، وعوناً على المحافظة على الوحدة الفكرية والمظهرية بين أفرادها وجماعاتها ، وإن الوحدة الفكرية بين المسلمين كافة ، تؤدي دوراً مهماً في هذه المرحلة الحرجة الخطيرة التي يمر بها العلم العربي والإسلامي من تمزق وتشتت ، وتنافر وتناحر ، والاقتتال بين الطوائف والأحزاب والجماعات للشعب الواحد ، هذا الدور الريادي الذي يعيد الأمة جمعاء إلى جادة الصواب ، من خلال تمسكها بلغتها الرصينة ، وقواعدها الأصلية التي أخذت عن العرب الأقحاح ، أرباب اللغة ، الذين نقلوا لنا اللغة عن طريق الكثرة الكاثرة من كلام العرب قديماً وحديثاً .
إن دراسة القرآن والحديث تحتاج إلى اللغة العربية لما فيها من معان سامية ، ومفاهيم أصلية . وإذا حاولنا أن نقدم معاني القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية مترجمة إلى اللغات الأجنبية ، فسوف تعوزها الروح الأصلية ، وتسلبها قيمتها التعبيرية والوجدانية ، بل وستفقد النصوص المنوط بها إعجاز القرآن وروعتها ، وكذلك غزارة المعاني التي تمتاز بها اللغة العربية . ولذلك صدق من قال : ” إذا كان التدريس في الهند باللغة العربية ، نشأ فيها المفسرون والمحدثون ، وإذا صار التدريس باللغة المحلية نشأ فيها المؤولون ومنكرو الحديث ” .
* كولكاتا ، الهند .
[1] الخصائص ، لابن جني : 1/33 .
[2] أستاذ علم اللغة في كلية الآداب بجامعة القاهرة ، وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة منذ عام 1999م .
[3] علم اللغة العربية ، محمود فهمي حجازي ، الجزء الأول ، ص 9 .
[4] هو عالم لغوي سويسري شهير ، ويعرف بأنه الأب للمدرسة البنيوية في علم اللسانيات فيما عده كثير من الباحثين مؤسس علم اللغة الحديث وتوفي سنة 1913م .
[5] علم اللغة العام ، فردينان دي سوسير ، ص 34 .
[6] وجورج ليونارد تراجر George Leonard Trager كان عالماً لغوياً أمريكياً ، كان رئيساً للجمعية اللغوية الأمريكية ، توفي 1992م .
[7] الموقع الإلكتروني على الشبكة العنكبوتية : http://www.academia.edu
[8] سورة البقرة ، الآية 31 .
[9] أخرجه الترمذي (3368) ، والبزار (8478) ، وابن خزيمة في ( التوحيد ) بسند صحيح .
[10] ابن حزم ، الإحكام في أصول الأحكام ، المجلد الأول .
[11] دراسات تحليلية ومواقف تطبيقية في تعليم اللغة العربية ، حسين سليمان قورة ، ص 21 – 39 .
[12] سورة الأنبياء ، الآية 107 .
[13] سورة سبأ ، الآية 28 .
[14] سورة النساء ، الآية 79 .
[15] سورة الشعراء ، الآية 193 .
[16] لغتنا والحياة ، لعائشة بنت الشاطئ : ص 192 ، ط 2 ، 1991م ، دار المعارف ، القاهرة .
[17] سورة يوسف ، الآية 2 .
[18] سورة فصلت ، الآية 3 .
[19] سورة محمد ، الآية 24 .