الأصول العملية للتعليم والتربية
مارس 14, 2023صفات الحديد في القرآن الكريم
مايو 28, 2023الدعوة الإسلامية :
من جوانب التربية المحمدية لهذه الأمة المجيدة
الشيخ الطاهر بدوي *
إن نظام المؤاخاة لم يكن جاهلياً ، إنما هو نظام استحدثه الإسلام بعد الهجرة لمواجهة حالة المهاجـرين الذين تركوا أموالهم وأهليهم في مكة ، ومواجهة الحالة كذلك بين المسلمين في المدينة ممن انفصلت علاقاتهم بأسرهم نتيجةً لإسلامهم ، وذلك مع تقرير الولاية العامة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وتقديمها على جميع ولايات النسب وتقرير الأمومة الروحية بين أزواجه عليه الصلاة والسلام وجميع المؤمنين . قال تعالى : ( ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذٰلِكَ فِى ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً ) ( الأحزاب : 6 ) .
لقد هاجر المهاجرون من مكة إلى المدينة تاركين وراءهم كل شيئ فارِّين إلى الله بدينهم ، مؤثرين عقيدتهم على وشايج القربى وذخاير المال وأسباب الحياة . كذلك وقع في المدينة شيئ من هذا في صورة أخرى . فقد دخل في الإسلام أفراد من بيوت وظل آخرون فيها على الشرك فأنبتت العلاقة بينهم وبين قرابتهم . ووقع على أي حال تخلخل في الروابط العائلية وتخلخل أوسع منه في الارتباطات الاجتماعية . وكان المجتمع الإسلامي لا يزال وليداً والدولة الإسلامية الناشئة أقرب إلى أن تكون فكرةً مسيطرةً على النفس ، من أن تكون نظاماً مستنداً إلى أوضاع مقررة . هنا ارتفعت موجة مـن المد الشعوري للعقيدة الجديدة ، تغطى على كل العواطف والمشاعر وكل الأوضاع والتقاليد وكل الصلات والروابط لتجعل العقيدة وحدهـا هي الوشيجة التي تربط القلوب ، وتربط في الوقت ذاته الوحدات التي انفصلت عن أصولها الطبيعية في الأسرة والقبيلـة ، فتقوم بينهـا مقـام الدم والنسب ، والمصلحة والصداقة والجنس واللغة وتمزج بين هذه الوحدات الداخلة في الإسلام فتجعل منها كتلةً حقيقيةً متماسكةً متجانسةً متعاونةً ومتكافلةً ، لا بنصوص التشريع ولا بأوامر الدولة ، ولكن بدافع داخلي ومد شعوري ، يتجاوز كل ما ألفه البشر في حياتهم العادية . وقامت الجماعة الإسلامية على هذا الأساس ، حيث لم يكن مستطاعاً أن تقوم على تنظيم الدولة وقوة الأوضاع . وقرر القرآن الكريم في الوقت ذاته الولاية العامة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان ميلاده نوراً أضـاء كل الآفـاق وبعثته رحمة للعالمين . فولاية الرسول صلى الله عليه وسلم تتقدم حتمياً على قرابة الدم بل على قرابة النفس ، لأنها تشمل رسم منهاج الحياة بحذافيرها ، وأمر المؤمنين فيها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليس لهم أن يختاروا إلا ما اختاره لهم بوحي من ربه : ” لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ” . كما قال عليه الصلاة والسلام . وتشمل مشاعرهم فيكون شخصه صلى الله عليه وسلم أحب إليهم من أنفسهم فلا يرغبون بأنفسهم عنه ولا يكون في قلوبهم شخص أو شيئ مقدم على ذاته .
جاء في الصحيح : ” والذي نفسي بيده ! لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين ” . وفي الصحيح أيضاً أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : ” يا رسول الله ! والله لأنت أحب إلي من كل شيئ إلا من نفسي ” ، فقال صلى الله عليه وسلم : ” لا يا عمر ! حتى أكون أحب إليك من نفسك ” ، فقال : ” يا رسول الله ! والله لأنت أحب إلي من كل شيئ حتى من نفسي ” . فقال صلى الله عليـه وسلم : ” الآن يا عمر ” .
وليست هذه كلمةً تقال ، ولكنها مرتقى عال لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية مباشرة تفتحه على هذا الأفق السامي الوضيئ الذي يخلص فيه من جاذبية الذات وحبها المتوشج بالحنايا والشعاب .
وتشمل الولاية العامة كذلك التزاماتهم . لقد جاء في الصحيح ما نصـه : ” ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس بـه في الدنيـا والآخـرة ، اقرؤوا إن شئتم : ” النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهـم ” . فأيما مؤمن ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا ، وإن ترك دَيْنًا أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه ” . والمعنى أنه يؤدى عنه دينه إن مات وليس له مال يفي بدينه ويعول عياله من بعده إن كانوا صغاراً ، وفيما عدا هذا فإن الحياة تقوم على أصولها الطبيعية التي لا تحتاج إلى مد شعوري عالياً ، ولا إلى فورة شعورية استثنائية مع الإبقـاء على صلات المودة بين الأوليـاء بعد إلغاء نظام الإخاء . فلا يمتنع أن يوصي الولي لوليه بعد مماته أوأن يهبه في حياته ” . إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً ” .
لقد جاء الرسول صلى الله عليه وسلم من أنفُس العرب ومن أنفَسهم وأشرفهم قال تعالى : ( لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ . فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِىَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ ) ( أواخر سورة التوبة ) ، فهذا الرسول الكريم بضعة من أنفسكم يشق عليه عنتكم ومشقتكم لا يلقى بكم في المهالك ولا يدفع بكم إلى المهاوى ، فإذا كلفكم الجهاد وركوب الصعاب فما ذاك من هوان بكم عليه ولا بقسوة في قلبه وغلظة ، إنما هي الرحمة في صورة من صورها الرحمة بكم من الذل والهوان والرحمة بكم من الذنب والخطيئة والحرص عليكم أن يكون لكم شرف حمل الدعوة وحظ رضوان الله والجنة التي وعد المتقون .
فوظيفة النبي صلى الله عليه وسلم في أمته أن يكون ” شاهداً ” عليهم ، فليعملوا بما يحسن هذه الشهادة التي لا تكذب ولا تزور ولا تبدل ولا تغير ، وأن يكون ” مبشراً ” لهم بما ينتظر العاملين من رحمة وغفران ومن فضل وتكريم ، وأن يكون ” نذيراً ” للغافلين بما ينتظر المسيئين من عذاب ونكال . فلا يؤخذوا على غرة ولا يعذبوا إلا بعد إنذار ، و “داعياً إلى الله ” لا إلى دنيا ولا إلى مجد ولا إلى عزة قومية ولا إلى عصبية جاهلية ولا إلى مغنم ولا إلى سلطان أوجاه ولكن داعياً إلى الله ، في طريق واحد يصل إلى الله ” بإذنه ” فما هو بمبتدع ولا بمتطوع ولا بقائل من عنده شيئاً ، إنما هو إذن الله له وأمـره لا يتعداه ” وسراجاً منيراً ” ، يجلو الظلمات ويكشف الشبهات وينير الطريق نوراً هادئاً كالسراج المنير في الظلمات .
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من النور جاء بالتصور الواضح البّين النير لهذا الوجود ولعلاقة الوجود بالخالق ولمكان الكائن الإنساني من هذا الوجود وخالقه ، وللقيم التي يقوم عليهـا الوجود كله ، ويقوم عليها وجود هذا الإنسان فيه ، وللمنشأ والمصير والهدف والغاية والطريق والوسيلة في قول فصل ، لا شبهة فيه ولا غموض . وفي أسلوب يخاطب الفطرة خطاباً مباشراً وينفذ إليها من أقرب السبل وأوسع الأبواب وأعمق المسالك والدروب .
لقد حدد الرسول صلى الله عليه وسلم مهمته بقوله : ” إنما بعثت معلماً ” [1] . والقرآن الكريم ذكر هذه المهمة الأساسية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بصراحة فقال : ( هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ) ( الجمعة : 2 ) . فقد أحصت هذه الآية من مهمات الرسول صلى الله عليه وسلم التعليم والتربية ، تعليم الكتاب والحكمة وتربية الأنفس عليهما . وكان الجانب الأعظم من حياة الرسول عليه الصلاة والسلام مستغرقاً بهذا الجانب . إذ أنه هو الجانب الذي ينبع عنه كل خير ولا يستقيم أي جانب من جوانب الحياة سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو عسكرياً أو أخلاقياً إلا به .
ولا يؤتى الإنسان ولا تؤتي أمة ولا تؤتي الإنسانية إلا من التفريط في العلم الصحيح والانحراف عنه إما إلى الجهل أو إلى ما يضر علمه ولا ينفع .
فالأمة بلا علم يوضح لها جوانب سلوكها ، وبلا تربية يعرف كل فرد من أفرادها واجبه ، تصبح أمة فوضوية ، تصرفاتها غير متوقعة وغير منضبطة ، ولكل فرد من أفرادها سلوك يخالف سلوك الآخر وعادات وتصورات تختلف فلا تكاد أمة تفلح بهذا ولا فرد .
إن كمال المربي يظهر في مقدار ما يستطيع أن ينقل نفس الإنسان وعقله من حالة دنيا إلى حالة أعلى ، وكلما ترقى بالإنسان أكثر ، دل ذلك على كماله أكثر . ويظهر أيضاً في سعة دائرة البشر الذين استطاع أن ينقلهم إلى كمالهم الإنساني ، فكلما كانت الدائرة أوسع كان أدل على الكمال ، ويظهر كذلك هذا الكمال في صلاحية هذه التعاليم والتربية وحاجة الناس جميعاً إليها ، واستمرار إيتاء هذه التعاليم آثارها على مدى العصور بحيث لا يستغني البشر عنها . . . فهذا شأن التربية المحمدية لأمته المجيدة التي لا يعتريها نقص ولا تناقض ولا فتور لأنها تربية ربانية تتلاءم مع الحاجيات والأزمان وتتكيف مع النفوس والعقول ، تربيةً لا شرقيةً ولا غربيةً ، تربيةً نورانيةً نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء .
ولم تكن دائرة تربية الرسول صلى الله عليه وسلم محدودة بل شملت كل الجزيرة العربية بترتيب وسائل هذه التربية . فكان لا يكتفي من القبيلة بإسلامها حتى يأتيه وفدها وكان يبقي وفدها عنده في المدينة أياماً ليفقه الدين الحنيف من خلال توجيهاته عليه الصلاة والسلام وسلوك صحابته الكرام حتى إذا ما أذن لهم بالرحيل أمَّر عليهم رجلاً منهم وأمرهم أن يقوموا بعملية التربيـة والتعليم نيابةً عنه . وكان زيادةً على ذلك يرسل أصحابه أحاداً أو جماعات ممن فقهوا وربوا تربيةً عاليةً إلى كل مكان ليقوموا بدور المربي . فكان من آثار ذلك أنه خلال بضع سنوات أصبحت الجزيرة العربية واعيةً لدين الله مربات مهذبة إلى حد كبير بعد أن كانت في أدنى دركات الانحطاط .
وكان القرآن حفظاً وفهماً وتطبيقاً وسلوكاً هو أداة هذه التربية العظيمة ، لأنه على قدر ما يستوعبه أفراد الأمة على قدر ما ترتفع أنفسها ويسمو تفكيرهـا وتتفتح آفـاق الحياة أمامهـا ، ولذلك جعله الرسول صلى الله عليه وسلم مقياساً للخيرة فقال في حديث أخرجه البخاري : ” خيركم من تعلم القرآن وعلمه ” . وكان يختار للإمرة أكثر النـاس أخذاً للقرآن حفظاً وفهماً وتطبيقـاً ، وربّى أصحابه الكرام على ذلك كعمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أصبح بهذه التربية النبوية ، رجل الدولة العظيم ورمز العدل الذي لا يكون إلا معه مع الحزم والرحمة وسعة الأفق وصدق الإدراك وحسن الفراسة ، وكعبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي أخرجته هذه التعاليم الرشيدة من كونه راعي الإبل إلى رجل بصير وحكيم ومؤسس لأكبر مدرسة في الفقه الإسلامي والتي ينتسب إليها الإمام أبوحنيفة النعمان . . . يصبح الرجل الذي يقول فيه عمر لأهل الكوفة : ” لقد آثرتكم بعبد الله على نفسي ” .
وما مضت على الأمة الإسلامية إلا فترة بسيطة من الزمن حتى أصبحت لا يغلبهـا غالب فكراً أو حرباً أو حضارةً ، أصبحت أمةً ، الحق عندها يحكم بالقوة ، والزهد عندها ترافقه الشجاعـة والعبادة عندها ترافقها الحكمة أمة ما رأت الدنيا مثلها ، محبوبةً عند الله وعند الناس ، فالكل يشهد لها لا عليها ، ويقف في صفها إلا جحود أو كنود ، وانظر إلى الأستاذ هيل كيف يقول عن هذه التربية النبوية الفذة : ” إن جميع الدعوات الدينية قد تركت آثاراً في تاريخ البشر . وكل رجال الدعوة والأنبياء قد أثروا تأثيراً عميقاً في حضارة عصرهم وأقوامهم ولكن لا نعرف في تاريخ البشر أن ديناً انتشر بهذه السرعة وغيّر العالم بأثره المباشر كما فعل الإسلام ولا نعرف في التاريخ دعوةً كان صاحبها سيداً ومالكاً لزمانـه ولقومه كما كان محمد . لقد أخرج أمةً إلى الوجود ومكن لعبادة الله في الأرض وفتحها لرسالة الطهر والفضيلة ووضع أسس العدالة والمساواة الاجتماعية بين المؤمنين وأصل النظام والتنـاسق والطاعة والعزة في أقوام لا تعرف غير الفوضى ” .
وهل نحن من أبنائها ؟ فإذا قلنا نعم فمن يجيب على : قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ؟؟
* كبير علماء الجزائر .