مـن دلالات حـادث عيـد الأضـحى

الصحة والنجاح والقوة
مارس 1, 2020
صور من التسامح في التاريخ الإسلامي : عمر بن عبد العزيز أنموذجاً
يوليو 25, 2020
الصحة والنجاح والقوة
مارس 1, 2020
صور من التسامح في التاريخ الإسلامي : عمر بن عبد العزيز أنموذجاً
يوليو 25, 2020

الدعوة الإسلامية :

مـن دلالات حـادث عيـد الأضـحى

بقلم : الشيخ الطاهر بدوي الجزائري *

يوم النحر من الأيام المختارة ، فمن قرب فيه قرباناً كانت كل قطرة دم تقطر من أضحيته أو هديه كفارة لكل ذنب عمله ، وهو من الأيام المحبوبة عند الله عز وجل ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” ما من أيام فيها أحب إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر [1] ، قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله تعالى ؟ قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك      بشيئ ” ، والمراد بالجهاد هنا الفرض الكفائى إذا قام به البعض سقط عن  الباقين ما لم يدخل العدو الوطن الإسلامي ، فإذا دخل أصبح فرض عين على كل مسلم ومسلمة لأن  بالجهاد يحصل الأمن وبالأمن تكمل الاستطاعة بعد المال والصحة .

يذكرنا هذا العيد كيف احتفل سيدنا إبراهيم عليه السلام بعيده قال تعالى في شانه : ” فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى ٱلنُّجُومِ . فَقَالَ إِنِّى سَقِيمٌ . فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ . فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا َتَأْكُلُونَ . مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ . فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِٱلْيَمِينِ . فَأَقْبَلُوۤاْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ . قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ . وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ . قَالُواْ ٱبْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِى ٱلْجَحِيمِ . فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ ٱلأَسْفَلِينَ ” ( الصافات : 88 – 98 ) ، ويروى أنه كان للقوم عيد ربما هو عيد ” النيروز ” يخرجون إلى الحدائق والخلوات بعد أن يضعوا الثمار بين يدي آلهتهم لتباركها ، ثم يعودون بعد الفسحة والمرح فيأخذون طعامهم  المبارك . وأن سيدنا إبراهيم عليه السلام بعد أن يئس من استجابتهم له وأيقن بانحراف فطرتهم ، الانحراف الذي لا صلاح له ، أسرع إلى آلهتهم المدعاة حيث أفرغ شحنه ، الغيظ المكتوم ، حركةً لا قولاً ” فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِٱلْيَمِينِ ” . وشفى نفسه من السقم والهم والضيق .

يذكرنا هذا العيد المبارك هجرة سيدنا إبراهيم عليه السلام قومهم وقد نجاه الله من نارهم . . . فماذا يملك الطغاة إذا كانت رعاية الله تحوط عباده المخلصين ؟ . . . نعم إنها هجرة نفسية قبل أن تكون هجرةً مكانيةً . . . يهاجر إلى ربه متخففاً من كل شيئ ، طارحاً وراءه كل شيئ مسلماً نفسه لربه لا يستبقي منهما شيئاً ، موقن أن ربه سيهديه وسيرعى أخطاءه وينقلها في الطريق المستقيم . فاستجاب الله دعاءه حين اتجه إلى ربه بسلامة القلب وصحة العقيدة وخلوص الضمير ، اتجه إليه يسأله الذرية المؤمنة والخلف الصالح : ” رَبِّ هَبْ لِى مِنَ ٱلصَّالِحِينِ ”            ( الصافات : 100 ) ، واستجاب الله دعاء رسوله الكريم ” فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ ” ( الصافات :  101 ) ، وهو إسماعيل عليه السلام على الراجح من الأقوال .

فلما جاءه جاء غلاماً ممتازاً يشهد له ربه بأنه حليم وها هو ذا يكاد يأنس ربه وصباه يتفتح ويبلغ معه السعي ويرافقه في الحياة حتى يرى في منامه أنه يذبحه ، ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية . . . ولكنه لا يتردد ولا يخالجه إلا شعور الطاعة ولا يخطر له إلا خاطر التسليم . . . قال تعالى في نفس السورة : ” قَالَ يا بُنَىَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يا أَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ . فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ أَن يا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ إِنَّا كَذٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ . إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ . وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ . وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى ٱلآخِرِينَ . سَلاَمٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ . كَذٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ . إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ ” ( الصافات : 102 – 111 ) .

لقد أسلما . . . فهذا هو الإسلام في حقيقته ، ثقة وطاعة وطمأنينة ورضى وتسليم ، وتنفيذ ، وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم ، وكلاهما ذبح نفسه بسكين الإخلاص وباعها لله واشتراها جل وعز برضاه .

قد صدق الرؤيا وحققها فعلاً . . . فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام بحيث لا يبقى في النفس ما تكنه عن الله أو تعزه عن أمره أو تحتفظ به دونه ولو كان هذا هو الابن فلذة الكبد ، وأنت يا إبراهيم قد فعلت وجدت بكل شيئ في رضى وهدوء وطمأنينة ويقين ، فلم يبقى إلا اللحم والدم وهذا ينوب عنه ذبح من دم ولحم . ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدت ، يفديها بذبح عظيم ، قيل أنه كبش وجده إبراهيم مهيأً بفعل ربه وإرادته ليذبحه بدلاً من إسماعيل . وقيل له : ” إِنَّا كَذٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ ” .

ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى ، ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان وجمال الطاعة وعظمة التسليم ، والذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم الذي تتبع  ملته ، والذي ترث نسبه وعقيدته ، ولتدرك طبيعة العقيدة التي تقوم بها أو  تقوم عليها ، ولتعرف أنها الاستسلام لقدر الله في طاعة ، راضية واثقة ملبية ، لا تسأل ربها لماذا ؟ ولا تتلجلج في تحقيق إرادته عند أول إشارة منه وأول توجيه ، و لا تستبقي لنفسها في نفسها شيئاً ، ولا تختار فيما تقدمه لربها هيئة ولا طريقة لتقديمه إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم . ثم لتعرف أن ربها لا يريد أن يعذبها بالابتلاء ولا أن يؤذيها بالبلاء ، إنما يريد أن تأتيه بقلوب خاشعة لا بأرقاب خاضعة ، تأتيه ملبيةً وافيةً مؤديةً طائعةً لأوامره مستسلمةً لقضاه فإذا عرف منها الصدق في هذا أعفاها من التضحيات والآلام واحتسبها لها وفاءً وأداءً وبارك فيها وقبل منها وفداها ، وأكرمها كما أكرم أباها ” وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى ٱلآخِرِينَ ” . فهو مذكور على توالي الأجيال والقرون وهو أمة وهو أبو الأنبياء وهو أبو هذه الأمة    المسلمة ، وهي وارثة ملته وقد كتب الله لها وعليها قيادة البشرية على ملة إبراهيم ، فجعلها الله له عقباً ونسباً إلى يوم الدين .

وعلامة العيد الإنابة إلى الله عز وجل وثمرتها المسارعة إلى الخيرات . فمن ذبح نفسه وفني عن دواعيها حق له أن يحتفل بالعيد ، عيد القرب والرضوان والإباء بغضب الملك الديان إلا أن يتوب عليه الرحيم الرحمان . ومما يؤكد هذا الفهم ويزكيه أننا نجد القرآن الكريم يقول في سورة المؤمنون : ” إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ . وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ . وَٱلَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ . وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ . أُوْلَـٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِى ٱلْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ” .

وكأن المسارعة إلى الخيرات تكون ثمرةً طيبةً وتاجاً رفيعاً لهؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات المجيدة . وكرام الناس يوصون أنفسهم وغيرهم بأن يتعجلوا خطواتهم نحو العمل الخير قبل أن تعوق العوائق . فهذا الإمام جعفر بن محمد رضي الله عنه يقول : ” إن الحاجة تعرض للرجل قبلي ( عندي ) فأبادر بقضائها مخافة أن يستغنى عنها ، أو تأتيه وقد استبطأها ، فلا يكون لها عنده وقع ” . وروى مسلم والترمذي أن رسول  الله صلى الله عليه وسلم قال : ” بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل مؤمناً ، ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً ، يبيع دينه بعرض من الدنيا ” .

نسأل  الله  أن يجعلنا من المسارعين  إلى الخير ، السابقين إلى البر إنه الرؤوف الرحيم .

* كبير علماء الجزائر .

[1]  أيام العشر الأولى من شهر ذي الحجة والعاشر يوم النحر أو عيد الأضحى .