مريم جميلة : نموذج رائد للمرأة المسلمة في مواجهة الاتجاهات المعاصرة

الشيخ طنطاوي جوهري فى ضوء إنتاجاته العلمية
نوفمبر 22, 2024
الشيخ طنطاوي جوهري فى ضوء إنتاجاته العلمية
نوفمبر 22, 2024

رجال من التاريخ :

مريم جميلة : نموذج رائد للمرأة المسلمة في مواجهة الاتجاهات المعاصرة

بقلم : الباحثة حراء سفيان *

رحلة مريم جميلة إلى الإسلام :

ولدت ” مارجريت ماركس ” في مدينة نيويورك سنة 1934م لأبوين يهوديين من أصل ألماني . وكان والداها هربرت ماركس وماركس ، قد تخليا عن الديانة اليهودية التقليدية ، واعتنقا ” اليهودية المجددة ” التي صاغها فلاسفة التجديد اليهود لكي تتسق مع الثقافة العلمانية الأمريكية المسيطرة في مجتمعهم . وكانت ” اليهودية المجددة ” تمثل مرحلةً أوليةً على الطريق إلى الإلحاد [1] ، وبالتالي ، لتكاملهما بشكل أفضل في المجتمع الأمريكي ، اختارا الانضمام إلى الكنيسة التوحيدية ، على خطى ابنتهما الكبرى ، بيتي ، وزوجها ، والتر [2] ، ومع ذلك ، لم تكن مارجريت تظهر أي اهتمام في اعتناق المسيحية [3] ، وكان لطريقة نشأتها في تلك البيئة المتلوثة بركام الجاهلية دليل على عناية الله تعالى بها . وهي لم تذق الخمر في حياتها ، ولم تلتق بالرجال ، ولم تحضر حفلات القوم ، وكل هذا عجيب من مثلها ، وكانت وهي في طفولتها تحضر الدروس التي تقيمها مدرسة الأحد اليهودية [4] دراسة الجمعية الثقافية الأخلاقية أبعدتها عن الدين [5] ، بقيت ملحدةً لفترة من الوقت ، لكن محاضرة الحاخام كاتش ( إبراهام إسحاق 1908 – 1998م ) ، العالم المعروف باللغتين العبرية والعربية ، أعادت إليها الاهتمام بالدين [6] ، وتسمع الحاخام وهو يخبرهم بأن العرب واليهود هم أولاد إبراهيم الخليل – عليه وعلى نبينا أفضل الصلوات وأتم التسليم ، فصارت تتمنى أن تذهب إلى فلسطين لرؤية أولاد عمها والاجتماع بهم ، ثم إنها صدمت بعد ذلك يوم رأت أبويها يحتفلان بقرار التقسيم سنة 1947م ، ويجمعان التبرعات لإقامة الدولة المسخ ، ثم يحتفلان بانتصار اليهود سنة 1367هـ الموافق 1948م ، فصارت تناقش أبويها بقوة في إقامة دولة اليهود على أحزان العرب وآلامهم ، فعجبا من كلامها . ومن المفارقات العجيبة أن رئيس وزراء إسرائيل السابق ” بن جوريون ” كان لا يؤمن بإله معلوم له من الصفات الذاتية ما يجعله فوق الطبيعة ، ولا يدخل معابد اليهود ولا يعمل بالشريعة اليهودية ، ولا يراعي العادات والتقاليد ، ومع هذا فإنه يُعتبر لدى الثقات عند اليهود التقليديين أحد كبار اليهود في العصر الحاضر ، كما أنَّ معظم زعماء اليهود يعتقدون أن الله وكيل للعقارات ، يهبهم الأرض ويخصهم بها دون غيرهم !!

كل هذه التناقضات جعلتها تكتشف زيف اليهود سريعاً ، واكتشفت أيضاً حقد العلماء اليهود على المسلمين وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لذا كانت الهوة تتسع مع مرور الوقت ، ويزداد النفور كلما اقتربت وتعمقت في أفكارهم [7] .

منذ أن كانت في العاشرة من عمرها ، كانت تهتم بقراءة كل ما يمكنها الحصول عليه عن العرب . وخلال فترة مراهقتها ، تكونت لديها قناعة راسخة بأن الإسلام هو سر عظمة العرب ، وليس العكس . وعندما اشتاقت للتعرف الكثير على هذا الدين الذي غير العرب بشكل كبير ، أصابها مرض مفاجئ في الصيف عام 1953م منعها من الذهاب إلى الجامعة لمدة عام كامل . خلال فترة مرضها ، طلبت من والدتها أن تحضر لها ترجمة لمعاني القرآن من مكتبة عامة . وهكذا بدأت قصتها مع الترجمات . أول ترجمة وقعت في يديها كانت لجورج سيل ، المنصر الإنجليزي من القرن الثامن عشر . وجدت نفسها تنفر من هذه الترجمة بسبب لغتها الركيكة ومحاولات سيل الطعن في مفسري القرآن مثل البيضاوي والزمخشري من خلال هوامش مطولة ومملة . كانت صدمةً كبيرةً للفتاة البالغة من العمر تسعة عشر عاماً أن تجد القرآن هكذا في ترجمة سيئة ومعادية . كادت أن تنفر من القرآن ذاته ، لولا أنها عثرت يوماً على طبعة رخيصة من ترجمة محمد مارماديوك بكتال ، الإنجليزي الذي اعتنق الإسلام . استراحت مريم جميلة لترجمة بكتال ، وأعجبت ببلاغة وسلاسة اللغة الإنجليزية فيها . وزاد تمسكها بهذه الترجمة عندما قارنتها بترجمات أخرى ، وجدت أنها تبتعد عن نقل حلاوة القرآن وتفسير معانيه بشكل دقيق ، وتتجه بدلاً من ذلك إلى الاعتذار والتبرير ومحاولة مواءمة مفاهيم القرآن مع بعض الأفكار الفلسفية والعلمية المتغيرة . من بين هذه الترجمات التي لم ترتح لها نفسها كانت ترجمة يوسف علي ، ومحمد علي اللاهوري ، وعبد الماجد الدريابادي . من حديث مريم عن الترجمات ، يتضح أنها كانت تدخل إلى الدين بحماس ويقظة وغيرة . كانت تبحث عمن ينقل حلاوة ودقة اللفظ والمعنى القرآني ، وترفض من يفقد الثقة في دينه إلى حد يلجأ فيه إلى تطويع معاني القرآن لأفكار الغربيين تقرباً منهم ، ظناً أن ذلك سيحوز رضاهم وتقبلهم . ولكن تجربة مريم أظهرت أن المدخل الصحيح هو الاعتزاز بالإيمان وصدق الإخبار عن القرآن والدين ، وليس التلاعب فيهما بحجة جذب الغربيين إلى الإسلام . فالصدق هو السبيل الوحيد للدعوة إلى دين الحق [8] .

ثم إنها عثرت في مكتبة نيويورك العامة على كتاب مشكاة المصابيح مترجماً إلى الإنجليزية ، وهو كتاب في الحديث النبوي الشريف ، فعكفت عليه حتى فرغت منه . ولو سألنا طلاب العلم منا اليوم ومثقفينا عن هذا الكاتب فلربما جهلوا عنوانه ، فدع عنك قراءته ، ومن رحمة الله بها أنها اطلعت على هذا القدر الكبير من الأحاديث في مرحلة مبكرة ، فهذا الاطلاع الواسع حماها من القرآنيين ( الذين يزعمون أنهم يأخذون بالقرآن فقط ) وضلالاتهم ، واستطاعت أن تفهم الإسلام فهماً جليلاً باطلاعها على مصدريه ، والاغتراف من معينهما . واصلت مريم دراستها الجامعية في جامعة نيويورك . كلية الآداب ، لكنها مرضت فانقطعت عن الدراسة سنتين ، وتناوشتها الوساوس في مرضها من كل جانب حتى كادت تلحد ، لكن الله تداركها بمزيد من القراءة والاطلاع ، والعجيب أنها استطاعت بهمتها ودأبها أن تتصل بشخصيات إسلامية رفيعة القدر في عصرها ، فقد أرسلت للبشير الإبراهيمي في الجزائر ، وسعيد رمضان في جنيف ، ومعروف الدواليبي في سوريا ، والأستاذ سيد قطب في سجنه بالقاهرة – رحمة الله عليهم جميعاً [9] . تلقت مريم جميلة توجيهاً من الأستاذ سعيد رمضان لمراسلة الأستاذ سيد قطب وشخصيات أخرى ، ولكن التحول الرئيسي في حياتها كان اتصالها بالأستاذ أبي الأعلى المودودي بعد قراءة مقالة له في مجلة إسلامية بجنوب إفريقيا . أعجبت بالمقالة وأرسلت رسالةً إلى المودودي في باكستان ، وتلقت رداً بعد شهرين ، مما أسعدها . استمرت المراسلات بينهما ثلاث سنوات .

اعتنقت الإسلام في عام 1961م في نيويورك على يد إمام مسجد بروكلين ، داود فيصل ، وسمت نفسها مريم الجميلة . واجهت تحديات كثيرةً بعد إسلامها ، مثل النقاشات الساخنة في المسجد حول جمال   عبد الناصر وكمال أتاتورك . بسبب الضغوط ، قررت الهجرة إلى باكستان بناءً على نصيحة الأستاذ المودودي الذي طمأن والديها . غادرت نيويورك في عام 1962م ووصلت إلى لاهور حيث استقبلها الأستاذ المودودي وأقامها في بيته لمدة سنتين . تزوجت من محمد يوسف خان ، أحد أتباع المودودي ، وهو كان متزوجاً ولديه خمسة أولاد . عاشت في لاهور مع زوجها وضرتها ، وأنجبت ابنين وابنتين واثني عشر حفيداً . كانت سعيدةً بحياتها في لاهور ، ولم تفكر في العودة إلى أمريكا [10] . في صباح الأربعاء 31 أكتوبر 2012م ، توفيت مريم جميلة في لاهور ، باكستان ، عن عمر 78 عاماً . وصُلِّي عليها في حي ” سنت نكر ” بعد صلاة العصر ودُفنت في المقبرة المحلية .

تلك كانت ” مريم جميلة ” ، ذاك النموذج الفريد للمرأة التي بحثت عن الحقيقة وصبرت وثابرت حتى عرفت الطريق إلى الله ، وعلمت أن حياة المرء إما له وإما عليه ، فاضطلعت بدورها في الحياة كامرأة مسلمة تدعو إلى الله ، وتقاوم شريعة المبطلين ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً . مريم جميلة كانت تقول بصراحة ما تراه خطأً وفقاً للقرآن والسنة وتعلن ما تعتبره حقاً . دافعت عن الإسلام بإخلاص وتفانٍ نادر .

مريم جميلة وأفكارها الإسلامية :

مريم جميلة نشأت في الغرب ، وكانت على دراية تامة بالفساد الذي يميز الحضارة الغربية ، ولهذا كانت تعارض بشدة أولئك الذين يعتقدون أن وضع المرأة في الإسلام هو أقل من وضع المرأة في الغرب . كانت تؤمن بشدة بأن مكانة المرأة في الإسلام ليست أقل من أي مكانة ، ولكنها كاملة وكريمة من جميع النواحي . وكانوا يهتفون بشعار المساواة بين الرجال والنساء ، ويريدون إظهار أن الإسلام قد أبقى المرأة كسجينة عن طريق الشفقة على حال المرأة في الإسلام . عملت بشكل خاص على تسليط الضوء على هذه المواضيع ، التي يتم انتقادها في كثير من الأحيان من قبل أعداء الإسلام ، مثل الولاية في الزواج ، وتعدد الزوجات ، والطلاق ، والحجاب ، وما إلى ذلك .

وقد انتقدت مريم جميلة بشدة العالم المصري قاسم أمين بقولها :  ” كان قاسم أمين أول مسلم في التاريخ يشن حملةً ضد الحجاب . ما فعله قاسم أمين كان قبول جميع هجمات المبشرين المسيحيين دون أن يهتم أبداً بالتحقيق في الوضع الحقيقي للمرأة المسلمة بعقل مفتوح وغير متحيز .

قامت مريم جميلة ببذل كل جهدها من خلال كتاباتها لإبراز هذه الحقيقة ، ألا وهي أن العديد من الحركات التي نشأت من أجل مساواة المرأة قد نشأت لتقويض الإسلام والمجتمع الإسلامي . ينبغي للنساء المسلمات فهم هذا جيداً وعدم الانجراف مع تيار الحضارة الغربية ، بل الالتزام بتعاليم الإسلام . مريم جميلة تنتقد الحركة النسوية بقولها :        ” النسوية هي منتج غير طبيعي واصطناعي وغير طبيعي للاضطراب الاجتماعي المعاصر الذي بدوره هو نتيجة لا مفر منها لرفض جميع القيم الروحية والأخلاقية العلوية المطلقة . يمكن لطالب علم الإنسانية والتاريخ أن يكون متأكداً من غير الطبيعية لحركة النسوية ، لأن جميع الثقافات البشرية التي نعرفها عبر العصور ما قبل التاريخية والتاريخية تجعل تمييزاً واضحاً ومحدداً بين ” الذكورية ” و ” الأنوثة ” وتنمذج الأدوار الاجتماعية للرجال والنساء وفقاً لذلك ” [11] ، أوضحت مريم جميلة بشكل مفصل مؤيدي الحركة النسوية بطريقة ممتازة : ” من وجهة النظر الإسلامية ، مسألة المساواة بين الرجال والنساء لا معنى لها . إنها كأن تناقش مساواة الوردة بالياسمين ، حيث لكل منهما عطرها ولونها وشكلها وجمالها الخاص . الرجال والنساء ليسوا متماثلين ؛ لكل منهما ميزاتها وخصائصها الفريدة . النساء لسن مساويات للرجال ، وكذلك الرجال ليسوا مساويين للنساء . الإسلام يصور أدوارهم في المجتمع على أنها تكاملية وليست تنافسيةً ، حيث لكل منهما واجبات ومهام تتناسب مع طبيعته وتكوينه ” [12] .

الخاتمة :

أفكار مريم حول قضايا مثل دور الرجال والنساء في المجتمع ، الاختلاط بين الجنسين ، والطلاق ، وتعدد الزوجات ، والحجاب عكست فهماً عميقاً يستند إلى المبادئ الإسلامية . دعت إلى الحياء والفصل للحفاظ على القيم الإسلامية ، وسلطت الضوء على تعاليم القرآن فيما يتعلق بالزواج والطلاق ، وأكدت الأدوار المكملة للرجال والنساء في المجتمع ، ودعمت ممارسة تعدد الزوجات ، وروجت للحجاب كرمز للحياء والتقوى . انتقدت النسوية لتركيزها على معايير المساواة الغربية على حساب التعاليم الإسلامية ، وركزت على تأثيرها السلبي على هياكل الأسرة والمعايير الاجتماعية ، ودعت إلى تحرير المرأة من خلال المبادئ الإسلامية بدلاً من الأيديولوجيات الغربية ، وجادلت ضد النسوية كشكل من أشكال الإمبريالية الثقافية الغربية .

تجسدت حياة مريم في قوة الإيمان والمعرفة في مواجهة التحديات المجتمعية المعقدة ، مقدمة درساً خالداً عن القوة المتمثلة في التفاني الثابت لمعتقدات الفرد . الإسلام الرجل قواماً على المرأة حتى لا تشعر بالخوف أو بالضعف . فهمت مريم جميلة تعاليم الإسلام وطبقتها في حياتها ، وحثت جميع النساء على السير على نفس النهج .

* قسم اللغة العربية وآدابها ، جامعة عليكره الإسلامية ، الهند .

[1] الدكتور عبدالرحمن ، جاذبية الإسلام الروحية لماذا أسلم هؤلاء ؟ ، القاهرة ، مكتبة وهبة ، 2009م ، 47 .

[2] Maryam Jameelah, Memories of Childhood in America: The Story of One Western Convert’s Quest for the Truth (Lahore: Mohammad Yusuf Khan, 1989), 208.

[3] Maryam Jameelah, Western Civilization Condemned by Itself: A Comprehensive Study of Moral Retrogression and Its Consequences, 2 vols., vol. 1 (Lahore: Mohammad Yusuf Khan, 1971),11.

[4] ذاكر الأعظمي ، مريم جميلة : المهاجرة من اليهودية إلى الإسلام ومن أمريكا إلى باكستان ، دمشق ، دار القلم ، 2010م ، 14 .

[5] Maryam Jameelah, Islam Versus the West (Lahore: Mohammad Yusuf Khan, 1984),2.

[6] Maryam Jameelah, Islam and Modernism (Lahore: Mohammad Yusuf Khan & Sons, 1988),11.

[7] المرجع السابق ، ذاكر الأعظمي ، 15 .

[8] د . محمد يحيى ، رحلتي من الكفر إلى الإيمان ، القاهرة ، المختار الإسلامي للطبع والنشر والتوزيع ، 2008م ، 22 .

[9] المرجع السابق ، ذاكر الأعظمي ، 16 .

[10] المرجع نفسه ، ذاكر الأعظمي ، 17 – 21 .

[11] المرجع نفسه ، 44 .

[12] المرجع نفسه ، 40 – 41 .