الإسلام والعلم الحديث
يناير 14, 2024المسلمون في رباط دائم
مارس 3, 2024التوجيه الإسلامي :
قصة صاحب الجنتين ومآل الجهود الإنسانية
( الحلقة الثانية الأخيرة )
الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله
تعريب : محمد فرمان الندوي
خطأ الفكرة :
وكان من فضل الله تعالى أن أثمرت الجنتان كثيراً ، فقال صاحب الجنتين لصاحبه وهو يحاوره عن عقاراته وجناته : أنا أكثر منك مالاً ، وأعز نفراً ، وهؤلاء يتعاونون في جميع شئوني ، وهم ماهرون ، وأكثر قدرةً وموهبةً ، وحينما دخل صاحب الجنتين الجنة فلا ينسب شيئاً إلى الله ، وهو يعتدي على نفسه ، وكان عليه أن يشكر الله تعالى ، ويقول : الحمد لله على هذه الجنات والبساتين ، وما شاء الله ، ما أحسنها ، وما أجملها ، لكنه لم يقل مثل هذه الجمل ، الواقع أنه كان يظلم نفسه ، وإن كفران الله مرادف للاعتداء على النفس ، وتكون مغبته وخيمةً ، فدخل الرجل الجنة وهو يعتز بما له من مال ومتاع ، وهو يقول : هذه جناتي ، وإنني أرى أن هذه الكثرة الكاثرة من المال والمتاع لا تنتهي أبداً ، وتستمر إلى يوم القيامة ، وكما أظن أن الساعة لا تقوم ، فإذا كان النظام الدنيوي يستمر بكل قوة وفخفخة ، فمتى تقوم الساعة ، وإذا سلّمتُ أن القيامة تقوم ، ورجعت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً .
موعظة صديق متدين :
وكان لصاحب الجنتين صديق متدين ، لا يملك من المال إلا قليلاً ، وكانت عنده جنة صغيرة ، إنه قال له بعد ما سمع حوار صديقه : أكفرتَ بالذي خلقك من تراب ، ثم من نطفة ، ثم سوّاك رجلاً ، ولو شاء الله لجعلك مخلوقاً آخر ، وخلقك حيواناً أرذل وأخس ، لكنه خلقك من تراب ، وجعل ذريتك تستمر بالنطفة ، وحينما ولدت من بطن أمك ، فكيف كان حالك ؟ ، لكنك أصبحت إنساناً رويداً رويداً ، فاعرف مكانتك ، وتُب إلى الله من جميع الذنوب والآثام ، ثم أردف ذكر عقائده وأفكاره أنه يؤمن بالله ، ولا يشرك معه أحداً ، فينسب كل شيئ إلى الله ، ولا يؤمن بأن أحداً يضره وينفعه سوى الله تعالى ، وبعد ما ذكر هذا الصديق موقفه قال وهو يثير غيرة صاحبه : لولا إذ دخلت جنتك قلت ماشاء الله ، لا قوة إلا بالله ، فكان عليه أن يقول هذا ، ويشكر الله تعالى على ما أعطاه من مال ومتاع .
ثم قارن بين موقفه وموقف صديقه أنك ترى أني أملك مالاً قليلاً ، وليس لي عدد كثير من الأولاد والأتباع ، ولا أستطيع أن أنجز عملاً عظيماً ، وليس لي مساعدون في هذا العمل ، وأنا رجل فقير ، لكن أؤمن بأن ربي قادر على أن يمنحني جنةً خيراً من جنتك ، فإنه على كل شيئ قدير ، كذلك إن ما ترى من جنات وبساتين ، إذا شاء ربي أرسل عليها حسباناً من السماء ، فتصبح صعيداً زلقاً ، فلا قيمة لقوتك ومالك وضيعتك ، وكل شيئ هالك إلا وجهه ، فانسب كل شيئ إلى الله ، ولا تغتر بقوتك وموهبتك ، يمكن أن ينزل عليها طائف من الله ، فيكون هشيماً مكسوراً ، أو أرضاً بلقعاً ، أو يذهب ماء الأض غوراً ، أو تجف البحار ، الواقع أن الله إذا شاء جفف مياه الأرض ، أو أتلف البساتين والحدائق بعواصف هوجاء ، وأعاصير نكراء ، فلا يدفعها الإنسان ، ولا ينال شيئاً من قوته وموهبته ، فاعرف هذه الحقيقة .
نزول العذاب :
حينما لم يتغير موقف صاحب الجنتين بعد نصحة صديقه المتدين ، فأرسل الله إليه طائفاً من السماء للاعتبار والاتعاظ منه في الدنيا ، فأحيط بثمره ، وتعرضت جناته للتلف والضياع ، فلما رأى صاحب الجنة هذا المنظر المخزي بدأ يقلِّب كفيه على ما أنفق فيها ( وقد استعمل القرآن الكريم بهذه المناسبة تعبير : يقلب كفيه ) معناه أنه كان متحيراً ومتحسراً على ما فات ، وجعل يقول : هاه هاه ، قد ضاع كل ما أنفقته في جناتي هذه ، وكانت جنته خاويةً على عروشها ، وبعد ما رأى عاقبته هذه اضطر إلى أن يقول : يا ليتني لم أشرك بربي أحداً .
ما هو الشرك ؟
الشرك هو السجود لغير الله تعالى ، وعبادة الأصنام واعتقادها نافعةً وضارةً ، لكن هذا الشرك هو في العبادة ، وينخدع الإنسان من كلمة الشرك أنها تكون في العبادة فقط ، لكن الحقيقة تقول : إن اعتقاد نفس أخرى مؤثرة في شيئ نوع من الشرك أيضاً ، فإشراك أحد في قدرة الله تعالى ، واعتقاد أنه يملك قدرةً قليلةً أو كثيرةً مثل قدرة الله تعالى يُعد في الإشراك بالله .
وأحياناً يكون الشرك في الأشياء المادية أيضاً ، فمثلاً يقول الإنسان : إني دبرت أمراً ، فأنجح فيه ، فلا بد للإنسان من فهم هذا الواقع أن التدبير إذا لم يوافق قدر الله تعالى فلا يكون الإنسان ناجحاً ، وكذلك يقول الإنسان : إني أنفقت مالاً كثيراً ، وهو ينفعني ، لكن هذا الإنفاق لا ينفعه إلا إذا أراد الله تعالى ، فلا بد للإنسان أن يضع نصب أعينه مشيئة الله تعالى لا جهده وسعيه ، فهناك أنواع كثيرة للإشراك بالله ، وهي تعرف بالشرك الخفي ، فإدراك الشرك الخفي والتغلب عليه ليس سهلاً ، لأن الإنسان يعتبر التدابير مؤثرةً ، وينسى هو أن الأصل في كل شيئ رضا الله ، الذي لا يتم أمر بغيره .
الله هو الشافي :
كان خالي الأكبر الطبيب السيد عبد العلي الحسني ( رئيس ندوة العلماء سابقاً ) من كبار الأطباء الإخصائيين ، وكان نقياً تقياً ، مؤمناً بالله كامل الإيمان ، مرةً قص علينا قصةً عجيبةً أنه جاء إليه مريض من نوع جديد ، فوصفت له دواءً بعد تفكير ، فأكل المريض الدواء ، فشُفي من مرضه ، ثم جاء مريض آخر ، هو يشكو نفس المرض الذي كان يشكوه المريض السابق ، فخطر ببالي أن أصف له نفس الدواء الذي وصفته للمريض السابق ، فأعطيت المريض نفس الدواء ، لكنه لم يشف ، ثم قال خالي رحمه الله تعالى : حينما وصفت الدواء للمريض الأول فاعتقدت أن الله تعالى إذا شاء ، نفعه الدواء ، لكن في المرة الثانية وثقت بالدواء ، بحيث إنه نفع المريض الأول ، فينفع المريض الثاني حقاً ، لكن الله تعالى أثبت بقدرته أن ظنك خاطئ تماماً ، بل الله هو الشافي .
من الخطأ البين أننا نعتبر الوسائل أصلاً ومؤثرةً في معظم الأوقات ، رغم أنه لا بد من الاعتناء بهذا الجانب أن كل ما يُرى في الظاهر ليس أصلاً ، بل الفاعل المؤثر في كل شيئ هو الله تعالى ، وهو يقدِّر الأمر ، ولا تكون الوسائل نافعةً إلا إذا شاء الله ، مثلاً أننا نأكل أحياناً بالملعق ، فإذا لا تُرى يد الإنسان فيظن الإنسان أن الملعق يوصل الطعام إلى الفم ، رغم أن الملعق ليس هو الأصل ، بل تختفي وراءه مشيئة الإنسان وإرادته ، فإذا فقدت يد الإنسان فلا اعتبار للملعق .
التوكل على الله :
أخبر الله تعالى بقصة صاحب الجنتين بأن الإنسان إذا توكل على الله أفلح ونجح ، وإذا اعتمد على مساعيه وجهوده ، وعلى كل ما بذل من مال ومتاع ، واعتمد كذلك على رجال العمل ، فيخشى أن يخيب الله تعالى جميع البرامج والمخططات له ، ويعاقبه في الدنيا ، وهذا واقع ملموس أن الله لا يعاقب في الدنيا عاجلاً ، لأنه جعل الدنيا دار الامتحان ، فإذا عاقب في الحياة الدنيا فكيف تكون هذه الدار دار امتحان ، ولأنه إذا عوقب رجل عقاباً شديداً فيتنبه رجل آخر ، ولا يخطئ خطأً مثله ، فقد أخّر الله العقاب إلى يوم القيامة ، وجعل باب التوبة مفتوحاً قبل ذلك ، فإذا تاب الإنسان من معاصيه وذنوبه تقبل الله توبته ، وإلا يجد نكال أعماله في الآخرة ، ويرى المجرم بأم عينيه كل ما عمل من جرائم في الدنيا ، فيكون على يقين بأنه سيعاقب ، وفقنا الله لما يحبه ويرضاه ، وجعل إيماننا قوياً .
الرضا بالقضاء ، العمل للآخرة :
ظن صاحب الجنتين أن جناته وجدت بمساعيه ، وتحصل له منافعها كثيراً ، وكانت هاتان الفكرتان على خطأ ، لأن الله جعل نظام الدنيا ، وهو يرى من ظاهره أنه ينحصر في الوسائل ، لكن الله أودع في الوسائل تأثيراً ، فهي توفِّر للإنسان طمأنينةً وسعادةً في الدنيا ، وقد أمرنا الله تعالى باختيارها ، ولم يأمرنا بترك الأسباب ، وبالتواكل على الله تعالى ، مرةً قال الصحابة رضي الله عنهم : يا رسول الله ! بيِّن لنا ديننا كأنا خلقنا الساعة ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من الجنة ، ومقعده من النار ، قالوا : يا رسول الله ! أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل ، قال : اعملوا ، فكل ميسر لما خلق له ( صحيح مسلم ، كتاب القدر ، باب كيفية خلق الآدمي ، رقم الحديث : 6903 ) ، ومرةً قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : أرسل ناقتي وأتوكل ؟ قال : اعقلها وتوكل ( سنن الترمذي : آخر أبواب صفة القيامة : 2707 ) ، فعُلم من هذا الحديث أنه ليس من المناسب أن يفك الراعي حبل الإبل ، فتسرح في الأرض حيثما شاءت ، بل عليه أن يقيدها ويعقلها ، وكلمة عقال تستعمل لشد رجلي الإبل ، وهي مشتقة من العقل ، معناها الشد والعقد ، وعقل الإنسان يمسك بوجوده فيسمي بالعقل ، أما العقال التي تستعمل على الرأس لئلا تسقط الشماغة اشتقت من عقل الإبل ، وكان العرب يشدون رجلي الإبل بالعقال ، وإذا فكوا الإبل عقدوا بها شماغة الرأس ، وقد انتهى زمن عقد الإبل ، لكنه أصبح عقد العقال على الرؤوس موضةً حضاريةً .
أمرنا الله تعالى في كل حال بأن نختار الوسائل المادية ، لكن لا نعتمد عليها ، بل نعتمد على الله تعالى ، لأن الوسائل هي الوسائل ، ولا يسري فيها التأثير والقوة إلا من الله ، فالله قادر على أن يسلب من الوسائل فعاليتها وتأثيرها ، أو يمنح الإنسان أكثر من التدابير والوسائل .
فرق بين الإنسان والحيوان :
ضرب الله تعالى في القرآن الكريم أمثلةً تبين أن الله يكتشف بالوسائل أحياناً أموراً تساوي الآيات البينات ، فأمر الناس باختيارها ، وقدم لهم فوائدها ، وأحياناً سلب منها تأثيرها ، فاختيار الوسائل في الدنيا من مميزات الإنسان ، فلا يشاركه فيها حيوان ، لأن الحيوان لا يمكن أن يكتشف أو يشير على أحد ، أو لا يعيش كما يعيش الإنسان ، بل كما خلقه الله يستمر في عمله ، فهو مخلوق مسير ، وهذا هو تسبيحه ، وهو يعد من عبادة الله ، قال تعالى : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) [ الإسراء : 44 ] .
إن ما أمر الله به الإنسان من اختيار الوسائل ، فهو لبيان أن الوسائل خلقها الله ، وهي التي ننجز بها أعمالنا ، فأحياناً نستعمل بعض الأشياء كثيراً حسب حاجياتنا ، وأخرى نستعمل بعضها قليلاً ، مثلاً نأكل الطعام بمقدار أوفر للشبع وإزالة الجوع ، وفي مقابل ذلك نتناول الدواء بمقدار قليل ، لأن الله وضع تأثيراً كثيراً في مقدراه القليل ، فالدواء لا يملك تأثيراً في نفسه ، فلا بد أن يؤمن كل إنسان بأن التأثير الذي أودع الله في الأشياء هو من صنع الله تعالى ، وليس فيه تدخل لأحد من البشر .
حدود اختيار الوسائل :
توجد في السيرة النبوية أمثلة لاختيار الوسائل وترك الأسباب ومنافعها ومضارها ، وفي غزوة أحد عيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفراً من الصحابة رضي الله عنهم ، وكان هذا النفر يراقب على أن لا يهجم الأعداء من وراء الجبل ، لكن لما انتصر المسلمون على الكفار ، وبدأ الكفار يولون منهزمين ، وتبعهم المسلمون ، ثم بدأ عمل جمع الغنائم ، ففكر هؤلاء النفر أنهم عينوا في هذه الجبهة لئلا يأتي الأعداء من وراء الجبل ، وإنهم قد ولوا مدبرين منهزمين ، فلا حاجة إلى البقاء هنا ، فننضم إلى المسلمين ، وهنا تجمع الغنائم ، فنشاركهم فيها ، فذكرهم أميرهم ، وقال لهم : لا بد لنا من البقاء هنا إلى نهاية الغزوة ، لكن أعضاء النفر لم يرضوا به ، وظنوا أن ليس للمشركين رجعةً ، وذهبوا إلى جمع الغنائم ، انتهز الكفار هذه الفرصة ، وكروا كرةً من وراء الجبل ، وكان الهجوم شديداً من الأمام ومن الخلف ، فانهزم المسلمون في ظاهر الأمر ، واضطروا إلى الفرار رغم نجاحهم في أول وهلة ، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيداً ، ولم يسلم هو أيضاً من أذى المشركين ، وأصابته الحجارة ، وكسرت رباعيته ، ووقع لشقه في حفرة ، فاستشهد عدد من الصحابة رضي الله عنهم ، فكان هذا خسارةً وقعت للمسلمين نظراً إلى ترك الجبهة التي عين فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين رجلاً من الصحابة رضي الله عنهم ، وقد نبه الله المسلمين على هذا الخطأ فقال : ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى ٱلأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّنْ بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَّنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَّنْ يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ . إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىٰ أحَدٍ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِيۤ أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) [ آل عمران : 152 – 153 ] .
كذلك أخبرنا الله تعالى في غزوة حنين بأن الاعتماد على الوسائل لا يُجدي نفعاً ، وكان عدد المسلمين في الغزوة كثيراً ، وفي مقابلهم كان الكفار قليلاً ، فظن المسلمون أننا لن نُغلب اليوم من قلة ، لكن الله قلب النتائج ، وانهزم المسلمون ، قال الله تعالى : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ) [ التوبة : 25 ] ، فكانت غزوة أحد مثالاً لترك الوسائل ، وكانت غزوة حنين مثالاً للاعتماد الزائد على الوسائل .
لا بد للمسلمين أن يعتقدوا أن التدابير نوع من الوسائل التي خلقها الله تعالى ، وأمرنا باختيارها ، فهي تعمل عملها ، لكن يمكن أنها تخفق أحياناً ، فإذا كانت هناك عقيدة غير ذلك عادت النتائج غير مرجوة ، إلا أن الله قد أمهل الكافر في الدنيا ، وليس له في الآخرة من نصيب ، فإنه يوفر للكافر وسائل الترف والبذخ كثيراً ، ليتنعموا بها في الحياة الدنيا ، ويتمتعوا بزخارفها ، ويلبسوا ويأكلوا ما يشاؤون ، لكن المسلمين إذا عاشوا مثل الكافرين نزل عليهم العذاب الأدنى ، لأنهم يدعون بالإيمان بالله ، ويعتقدون الله قادراً مطلقاً على كل شيئ ، ثم يخالفون أوامره ونواهيه .
خطأ صاحب الجنتين :
ظن صاحب الجنتين أن ما اختاره من حكمة وتدبير في زروعه وبساتينه هو ثمرة جهوده ومساعيه ، وما حصل له من نعم وملذات ، كان من حنكته وتجربته ، فنهاه صاحبه عنه ، لكنه لم يعبأ بنهيه ، وبما أن صاحب الجنتين كان مسلماً ، وكان يخطئ في معرفة الوسائل وإدراك الحقائق ، فكشف الله عنه غطاء عينيه أنه يمكن أن يزرع زرعاً ، ويسقي ماءً ، أو يستأجر أجراء ، لكنه لا يدفع عنه العواصف والآفات السماوية ، فإن الله يملك لها قدرةً كاملةً ، ولم يعط الإنسان فيها أدنى اختيار ، مثل : نزول المطر ، ووقوع الحوادث ، وهبوب الرياح ، فلا يمكن لإنسان أن يفعل شيئاً في هذا المجال .
فرق بين قدرة الله واختيار الإنسان :
إن ما خيَّره الله الإنسان له نطاق محدود ، وهو مخير في نطاقه ، وليس له قدرة في كل شيئ ، فلا اختيار له في الفصول والطقوس ، وكذلك كثير من الأشياء لم يجعل الله الإنسان فيها مخيراً ، وكما يقول مشايخنا الكبار : لا تقولوا : مُطرنا بسبب الفصول ، بل قولوا : أنزل الله المطر ، وثبت هذا من السنة النبوية كذلك ، فإن الله يرسل الرياح فتثير سحاباً ، ويذهب الملائكة بها ، فتمطر من السماء أمطار غزيرة ، قال تعالى : ( ٱللَّهُ ٱلَّذِى يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) [ الروم : 48 ] وقال في موضع آخر : ( وَهُوَ ٱلَّذِى يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ ٱلْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ كَذٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) [ الأعراف : 57 ] .
فإذا نزلت الأمطار على أرض فلا يكون نزولها صُدفةً من السحاب ، بل تُرسل من الله تعالى ، فتمطر ، وقد جعل الله نظامها في الظاهر بحيث تخفى هذه الأشياء ، وإلا كان امتحان طاعة الإنسان وعصيانه صعباً ، فالامتحان يكون في حالة ، وقع فيها الإنسان بين أمرين ، هل يدير هذا العالم قوة خافية أو يسير هذا النظام بالوسائل الظاهرة ، فإذا رأينا نار جهنم بأعيننا اقشعرت جلودنا ، واشمأزت آثار وجوهنا ولا نجترئ على شيئ ضد قدرة الله تعالى ، فلا يكون في هذه الحالة امتحان واختبار ، ويستمر امتحاننا إذا كان بعض أمورنا خفياً عن أعيننا ، ونعتقد أن كل ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم حق ، فالإيمان بالله ، والإيمان بالرسل والإيمان بالملائكة والإيمان بكتب الله ، والإيمان بالقدر خيره وشره والإيمان بالآخرة من أساسيات إيماننا ، وهو أن نؤمن بهذه الأصول من القلب .