المجاهد الكبير الإمام إسماعيل بن عبد الغني الشهيد رحمه الله ( 1193هـ – 1246هـ )
ديسمبر 4, 2021فعاليات الشيخ أبي الحسن الندوي مع رابطة العالم الإسلامي
يناير 2, 2022رجال من التاريخ :
عبد العزيز جاويش
الشيخ الذي رفض منصب شيخ الإسلام
الدكتور غريب جمعة – جمهورية مصر العربية
( الحلقة الثالثة )
سفره إلى إنجلترا مرة أخرى :
تمَّ اختيار الرجل ليكون أستاذاً للغة العربية بجامعة ( أكسفورد ) بإنجلترا بعد أن علا نجمه وذاع صيته في مصر وخارجها ، وقد رأى فيه الطلاب الإنجليز أستاذاً جليلاً يملأ ثيابه !! .
فهو ذو بحث دقيق وعلم غزير وخلق فاضل وحرص وجدّ على إفادة طلابه وإشعارهم بالعطف الأبوي مع توجيه الأستاذ ، فاجتمعت له المحبة والهيبة في قلوبهم . وكأنما عز عليهم أن يكون مثل هذا الأستاذ العظيم مسلماً يدين بدين يؤمن بالخرافات ويستبيح الرق ويقاتل الناس لإكراههم على اعتناقه ويهضم حقوق المرأة ، ولكنه يسمح للرجل بإشباع شهواته عن طريق الزواج بأكثر من واحدة والعبث برباط الزوجية وحله متى يريد باسم الطلاق بل وصل الأمر ببعض معتنقيه إلى عبادة أحجار الكعبة وعبادة محمد أيضاً !! .
وهو دين لا يعرف الحضارة من قريب أو بعيد . فليس فيه تقدم علمي ولا سمو أدبي ولا رقي اجتماعي . هذا ما قاله بعض الطلاب في صراحة تامة للشيخ حول الدين الذي يؤمن به وهم الذين لم يراعوا مشاعر الشيخ . أما الآخرون فقد قالوا على استحياء : إن الإسلام لا يصلح إلا لبيئة صحراوية ولقبائل بدوية نزل فيها منذ زمن بعيد .
استمع الشيخ إلى كل هذه الاتهامات وما ضاق بها ذرعاً ولا بأصحابها ، بل سألهم في تؤدة واتزان عن المصادر التي يأخذون عنها الإسلام ، فقالوا : أقوال المبشرين بالنصرانية وأقوال بعض القسس وبعض الكتابات لمستشرقين ومستغربين لم نقرأ فيها إلا طعناً في الإسلام وفي نبي الإسلام وتشكيكاً في القرآن يصدّ عنه من يحاول أن يقرأه ليعرف ما فيه .
عندئذ بدأ الشيخ يرد على كل اتهام بحجة بالغة ومنطق سديد ولسان عف وجدال بالتي هي أحسن ، وهو الخبير بمداخل النفوس صاحب البيان الرائع والخلق الكريم الذي يفرض على من يجالسه أن يستمع إليه حتى ولو كان لا يحبه أو لا يتفق معه في الرأي وينتهي الجدال بفوزه باحترام من يجادله لأنه لم يجد فيه انفصاماً بين ما يدعو إليه ولا ما يفعله وإنما ظاهره كباطنه سواء بسواء ، والداعية أو الأستاذ إذا حباه الله تلك الخلة تربع على عرش القلوب .
ومن العجيب أن فريقاً من الطلبة قال في حماسة وقناعة بالغتين حينما سمع ما قاله الشيخ : إذا كان هذا هو الإسلام فالإسلام دين الفطرة . وكانت هذه الكلمة البريئة الصادقة النابعة من القلوب سبباً في تأليف الشيخ لكتاب يجمع هذه الشبهات جعل عنوانه : ” الإسلام دين الفطرة ” .
الشيخ يواجه المستشرقين والمبشرين :
كانت حركة الاستشراق والتبشير على أشدها في ذلك الوقت فهي تملك المال والرجال كما أن الدول تعتبر مسرحاً كبيراً لنشاطهم ، وعليه فلا شيئ يقف في طريقهم بل إن وزارة المستعمرات في بريطانيا أنشأت قسماً خاصاً يتبعه هؤلاء المستشرقون حيث يتقاضون رواتب مغرية ليؤدوا رسالتهم الهابطة في ليّ أعناق الحقائق وتشويه التاريخ ودس السم في العسل والكذب على الله وعلى الناس وبهذا يضعون غشاوة على أبصار ذوي القراءة المحدودة في الشرق وحجاباً غليظاً لمن يريدون القراءة عن الإسلام في الغرب .
ولما انعقد مؤتمر الاستشراق عام 1905م بالجزائر كان صوت الشيخ جاويش يدوي بالأدلة التي بهرت الجميع حيث قدم بحثه ” الإسلام دين الفطرة ” وقد أعجب به الزعيم الوطني المجاهد محمد فريد إعجاباً شديداً ، ولما خلا منصب رئيس تحرير جريدة ” اللواء ” بوفاة الزعيم مصطفى كامل أسند هذا المنصب إلى الشيخ عبد العزيز ، وهكذا وقف الشيخ على منبر من أكبر المنابر السياسية في مصر ليعلن رأيه الشجاع من فوقه في سياسة مصر ومحاربة المحتلين .
هذا ما كان في الجزائر ، أما ما كان في مصر فنحن ننقله كما كتبه الدكتور محمد رجب البيومي في الجزء الأول من مؤلفه النهضة الإسلامية حتى لا يتهمنا أحد بزيادة أو نقصان ، وهذا ليس من الأمانة العلمية يقول الرجل :
” جاء بعض المستشرقين في زورة إلى القاهرة فاحتفلت به الدوائر الرسمية احتفالاً رناناً ، وأسهبت الجرائد في تعداد مآثره وما حقق من كتب وما نشر من موسوعات ، وأقيمت في إحدى دور العلم الكبيرة حفلة استقبال شهدها جمهور كبير من ذوى الثقافة ، وفيهم من لا يزالون يسبحون بحمد المستشرقين ويفرحون بما يرجفون من مفتريات ، ليذيعوها على الناس في مؤلفات تحمل أسماءهم دون حياء . وما حان موعد الاحتفال حتى نهض وزير المعارف يكرم المستشرق الزائر ويفتتح الكلام عن مزاياه ومواهبه ، وكان من المتوقع أن يتوالى الأساتذة الجامعيون ومن يلف لفهم على منصة الخطابة ليصلوا بالثناء إلى منتهاه .
ولكن الجمهور فوجئ بالشيخ جاويش بقامته الممتدة وعمامته العالية وعباءته الفضفاضة وعصاه الممتلئة يعتلي المنصة ، مقحمًا نفسه – بعد أن انتهى الوزير من كلمته – ثم يرسل عينية المتلألئتين فتومضان ببريق يمتد إلى ثناياه اللامعة ويدور حول لحيته السوداء ذلك المشهد الوقور ، ويبتدئ الحديث بحمد لله ثم يقول ما معناه : إن كلمة وزير المعارف تدل على أنه لم يقرأ شيئاً عن هذا المستشرق الذي تكرمونه ، إذ إن المؤلفات التي تحدث عنها الوزير وسيتحدث عنها من أعدوا أنفسهم للكلام ، بالطبع ليست إلا طعنات مسمومة للفكرة الإسلامية ، وقد قرأتها أثناء إقامتي بإنجلترا ، وناقشت صاحبها فلم أجده يخطئ إلا عن عمد ، فهو يدري الصواب ويتجنبه ، ثم يلتمس أوهى الروايات ليبني عليها ما يروق له من التدليس والافتراء ! ولو كرمنا الرجل كضيف فقط لا كمؤلف .
قال الأستاذ جاويش ذلك فارتج الحفل ارتجاجاً واضطرب الوزير اضطراب المحرج المأخوذ وتساقط عرق الخزي على وجوه من أعدّوا أنفسهم للكلام ، وزاد الموقف خطورة حينما وقف النائب الباسل والمسلم العربي الشهم : عبدالحميد سعيد رئيس جمعيات الشبان المسلمين فأعلن انتهاء الحفل وأشار للمستمعين فتسللوا منصرفين بينما جأر الأستاذ جاويش يصيح : يا للمذلة أوصل الانهيار بالمسلمين إلى حد يجعلهم يقيمون حفلات التكريم لمن يصم دينهم بالتوحش والغلظة والشهوة والاستبداد ! ثم يكون رئيس الاحتفال وزير المعارف ومتكلموه أساتذة الجامعة في عاصمة الإسلام . أثارت مقالات ومواقف الشيخ عبدالعزيز جاويش حفائظ المحتلين الإنجليز عليه ، فأخذت تشن عليه الحملات الظالمة وتعتبره عدو الاستعمار الأول في مصر حتى قالت جريدة ( الأجبشيان جازيت ) لقرائها : ربما كان من فائدة إلغاء الإعانة وعدم إمداد نظارة المعارف بمدرسي اللغة العربية في جامعات إنجلترا ألا يعود منها رجال شديدو العداوة والكراهية ومن ألد خصوم إنجلترا كالشيخ عبد العزيز جاويش الجالس على كرسي مصطفى كامل في دار اللواء . وقد رد الأستاذ جاويش بمقال على هذا الهذيان نسفه نسفاً قال فيه : ” ونحن نقول للجازيت : إنها أخطأت فيما نشرت ، فإن سفر المصريين إلى بلاد الإنجليز لا يجعلهم أعداء للإنجليز ولكن للاحتلال وللمحتلين ” . نصحني المستر دنلوب أيام سافرت إلى أكسفورد بأن أقتدي بما أراه من الأخلاق الفاضلة في هذه الأمة العظيمة ، فماذا جرى ؟ ذهبت إلى تلك الديار فوجدت الناس متمسكين بدينهم فزادوني تمسكاً بديني ، رأيتهم شديدي الحرص على لغتهم فزادوني حرصاً على لغتي ، أبصرتهم يتفانون في الدفاع عن بلادهم ويحرمون على الأجانب الاستيلاء على بعض شؤونهم أو التصرف في أموالهم ورقابهم فأخذت أحاكيهم في هذه البلاد ( بلادنا ) السيئة الحظ بالاحتلال وأشياعهم ، ورأيتهم يحبون الصراحة ولا يخشون معتبة ولا يتهيبون متعبة ما دام الحق لهم فأخذت أحاكيهم في تلك الفضائل التي نصح بها إليّ عمادهم بنظارة المعارف العمومية ، أبصرتهم يحبون العمل ويكرهون الكسل ويحضون على الفضيلة فعدت إلى بلادي ثم صرت أشتغل بهمة لا تعرف الملل ولا الانقطاع ” .