شعر الطبيعة : بواعثه وخصائصه

رمزية الليل وصوره الإبداعية في الشعر العربي
يناير 1, 2020
تعريف التحقيق والتخريج وأهميتهما للمخطوطات
مارس 1, 2020
رمزية الليل وصوره الإبداعية في الشعر العربي
يناير 1, 2020
تعريف التحقيق والتخريج وأهميتهما للمخطوطات
مارس 1, 2020

دراسات وأبحاث :

شعر الطبيعة : بواعثه وخصائصه

الأستاذ محمد شمس الدين *

إن الحضارة الأندلسية قد بلغت في ربوعها مبلغاً رفيعاً فاتسعت فيها آفاق العلوم والفنون والآداب والفلسفة وساعدت الطبيعة الفاتنة على نضوج الشعر وحلاوته ، وكان لمجالس الأنس والبهجة الأثر الكبير في تنوع أغراض الشعر وبخاصته الوصف ، فوصف الشعراء الأندلسيون الطبيعة الفاتنة كما وصفوا الحدائق والقصور والأبنية وما بها من صور وأشكال وتماثيل وبرك ، وإن شعر الطبيعة في الأندلس قد تعددت أغراضه ، ولم تعرف الزهريات والمائيات والثلجيات وما إليها إلا في القرن الخامس .

شعر الطبيعة :

إن شعر الطبيعة باعتباره مصطلحاً أدبياً شيئ جديد في الأدب العربي لكنه إذا تعمقنا فيه كفن من الفنون أو موضوع من الموضوعات لعثرنا على أنه كان معروفاً لدى الشعراء العرب وأدبائهم منذ قديم في الثراث العربي القديم بأشكاله وخصائصه ، وإن مساهمة الغرب تنحصر في اختراع هذا المصطلح فقط ، وليس فيه رأيان لو قلنا : إن العرب أخذوا هذا المصطلح من الغرب لأن الآداب الغربية كلها قد أخذت من شعراء العرب في الأندلس ، ويرجع إليهم الفضل في إيجاد هذا الفن من حيث الفن وتطويره وجعله غرضاً من الأغراض الشعرية .

يقول مصطفى الشكعة :

” وكان الحنين إلى الشرق يمثل جانباً كبيراً من أماني شعراء الأندلس وأحلامهم منذ أن استوطن العرب تلك البلاد ، فهذا عبد الرحمن الداخل لا تكاد العزة والرفاهية اللتان يحياهما في الأندلس تثنيانه عن الحنين إلى المشرق فيجلس في مجلسه ويلمع من بعيد نخلة ، فلا تلبث أن تهيج أشجانه وتذكره بأرض آبائه وأجداده ” فيقول :

تبدت لنا وسط الــرصــافة نخـلة                  تناءت بأرض الــغــرب عـن بلد النخل

فقلت : شبيهى في التغرب والنوى                  وطــول الـتنائي عن بني وعن أهلي

نشأت بأرض أنت فــيها غريــبــة                 فـــمـثـلك في الإقصاء والمنتأي مثلى

سقتك غواد المزن في المــنتأى الذي                      يسع ويستمرى السماكين بالوبل [1]

ولم يكن وصف الطبيعة فناً مقصوراً في بيئة المغاربة والأندلسيين ، فقد اشتهر بعض الشعراء في العصر العباسي بوصفهم الطبيعة ومناظرها في شعرهم مثل البحتري ، وابن الرومي والصنوبري وغيرهم ، وكانت هذه الأسماء لامعة في سماء وصف الطبيعة في الشعر المشرقي ، ويوجد أيضاً في قصائد الشعراء الجاهليين ذكر الطبيعة وجمالها إذ وصفوا الصحراء والبوادي وحياض الماء وغيرها وتفننوا في هذا الوصف ، ولكن هذا الوصف عندهم في إطار ضيق لا يمكن تسميته بشعر الطبيعة وذلك نظراً لحياتهم البدوية وبيئتهم الصحراوية الجرداء ، ومن ثم نجد أن الشعراء العباسيين كالصنوبري والبحتري وابن الرومي قد فاقوا من سبقهم من الشعراء الجاهليين وغيرهم في شعر الطبيعة .

إن الشعراء الأندلسيين اقتفوا أثر الشعراء المشارقة ، ولذلك كانت فنون الشعر تنضج في الأندلس بعد أن تكون قد بلغت أوجها في المشرق ، قال الأندلسيون الشعر في مواضيع شتى ، ونظموه في أبواب مختلفة كما تظهر لنا من أبياتهم ولكن إذا أردنا أن ننظر إبداعهم وبراعة وصفهم و دقة تصويرهم و رقة أحاسيسهم وشدة افتتانهم وحلاوة معانيهم وخصب خيالهم ، فعلينا أن نسمعهم في ذكر بلادهم الجميلة ووصف مفاتنها يصفون أطيارها وأشجارها وجداولها وأنهارها ، غيومها وأمطارها وقصورها وحدائقها ، وما كان شعرهم إلا ألواناً متمازجةً أنيقةً من خضرة الأشجار وحمرة الأثمار وبياض الحباب وصفرة الشمس وذهب الأصيل كان للطبيعة في نفس الشاعر المرهف الحس أثر وكان للطبيعة في جميع أغراضه التي قال فيها الشعر والأبواب التي طرقها  ذكر ، ولذلك فللطبيعة ذكريات في قلبه وللطبيعة انطباعات في حسه ، ولذلك فهو يذكرها دائماً ، وللطبيعة في نفسه مكان رفيع ، ولا غرو أن يظل الأندلس ذلك الصقيع الجميل الذي له ألطف أثر وأجمل وقع في نفوس أبنائه ماثلاً لأعين الأندلس أينما حل وأينما سار فهي قبلة وكعبة فإليها يحن وإليها يتشوق وحبها في دمائها يجري حاراً ، فجمالها فوق كل جمال وعمرانها دون كل عمران ويظهر ذلك جلياً في أبيات ابن سفرالمريني :

في أرض أنـــدلــس تــلــتـذ نعماء                 ولا يــــفــــارق فـــيــهــا القلب سراء

ولـيس في غيرها بالعيش منتفع          ولا تــــــقــــــوم بـــــحـــق الماء صهباء

وأين يعدل عن أرض تحض بها                   عــــلـــى الـــشـــهــــادة أزواج وأبـــناء

وأيـن يـعدل عن أرض تحث بها                  عــــلـــى الـــمــدامـــة أفـــيـاء وأنـداء

وكيف لا تبهج الأبصار رؤيتها          وكل أرض بها في الوشي صنعاء

أنـــهــارهــا فـضة والمسك تربتها                والـــخز روضــتــهـا والدر حصباء [2]

وقرض أحمد بن عبد ربه في وصف الروضة الطبيعة فيقول :

ومــــا روضـــــة بـــالــحــزن حاك لها الندى     بــرودا مــن الموشي حمر الشقائق

يــــقـــيـــم الـــدجـــى أعـــناقـــهـا ويميلها       شعاع الضـحى المستن في كل شارق

إذا ضاحكتها الشمس تبكى بأعين        مكللة لـــلأجـفان صفر الحمالق

حــــكـــــت أرضــهـا لون السماء وزانها         نـــجـوم كأمثال النجوم الخوافق

بــــأطــــيــــب نــــشــر مـن خـلائــقه التي      لها خـضـعت في الحسن زهر الخلائق [3]

أصناف شعر الطبيعة :

ذكر الباحثون أن الشعراء الأندلسيين الذين قرضوا الأبيات في وصف الطبيعة يمكن تقسيمها في خمسة أصناف تستوعب جميع جوانب شعرالطبيعة .

  1. الروضيات : وهي عبارة عن الشعر الذي يتناول فيه الشاعر الحدائق والرياض وما يتصل بها وينضم إليها .
  2. الزهريات : الشعر المختص بذكر الأزهار مثل الورد والنرجس والنيلوفر والياسمين والشقائق والقرنفل وغيرها .
  3. الثمريات : هي الشعر المختص بالأثمار والبقول وما يتصل بها .
  4. المائيات : الشعر المختص بوصف الأنهار والجداول والسواقي والغدران .
  5. الثلجيات : هي الشعر المختص في الثلج والبرد وما إلى ذلك .

بواعث ازدهار شعر الطبيعة في الأندلس :

وإن العرب لما دخلوا الأندلس وجدوا أنفسهم أمام طبيعة ساحرة في بيئة مزدهرة غنية بأنواع الجمال والفتنة فمالت طبيعتهم إلى وصفها وبيانها في شعرهم وهكذا كان للطبيعة الأندلسية أثرعميق في تطور شعر الطبيعة ، وإن شعر الطبيعة يعتبر مرآةً صادقةً لطبيعة الأندلس وجمالها وسحرها .

ولم يكن جمال الطبيعة وسحرها في الأندلس العامل الوحيد الذي عمل على ازدهار شعر الطبيعة ، بل هناك مجموعة من العوامل التي لعبت دوراً بارزاً في تطوره وازدهاره ، وأهمها الاثنان :

  1. ازدهار الحضارة العربية في الأندلس ازدهاراً واسع النطاق . وهذا الازدهار شمل جميع نواحي الحياة الأندلسية : العلمية والثقافية والحضارية ، يقول أحمد حسن الزيات :

” وكان الأمويون وعرب الأندلس لا ينفكون ملتفين على الشرق موطن الجنس والدين واللغة والأدب والحضارة فيسيرون على ضيائه ، ويستمدون من زعمائه وعلمائه ويحذون في سياستهم وإدارتهم حذو العباسيين فشيدوا المدارس الجامعة وأنشأوا المكاتب العامة ، ونشطوا حركة التأليف وأذكوا نهضة الأدب ورفعوا مجد الفنون ، وعقدوا مجالس المناظرة والمسامرة والغناء ، بلغت الأندلس من ذلك كله الحظ الموفور في عهد عبد الرحمن الثاني ( 206 – 238هـ ) ” [4] .

إن الحضارة العربية لعبت دوراً كبيراً في ازدهار شعر الطبيعة في الأندلس وهناك توجد العوامل الكثيرة في ازدهار الحضارة العربية كما سبق وأن الحضارة قد بلغت في ربوعها مبلغاً رفيعاً فاتسعت فيها آفاق العلوم والفنون والآداب والفلسفة ، والحضارة العربية قد كستها أنوار المعرفة والأدب من شعر ونثر ، فقد جرى على الألسنة ، إنشاداً من فيض القرايح .

  1. كثرة مجالس البهجة واللهو ومنافسة الخلفاء والأمراء فيما بينهم على عقد هذه المجالس ، وكانت هذه المجالس تعقد غالباً في أحضان الطبيعة التي أبدع فيها شعراء الأندلس ، وبالغوا في وصفها ومناظرها المختلفة ، وقد منح الله الأندلس القسط الأوفر من اعتدال المناخ ، ولطافة الجو ، فسقاها الغمام في أكثر أيام السنة فتفجرت أرضها بالأنهار الفياضة، والجداول والينابيع ، مما جعل طبيعة الأندلس طبيعةً ساحرةً والتي جعلت تلك البقاع أصبحت حديقةً واحدةً واسعة الأرجاء بجبالها الخضراء وسهولها المغطاة فيصف الشاعر المبدع ابن خفاجة بلاده :

إن لــلــــجــــنــة بالأنـدلس               مــــجــــتـــلــى حــسن وريا نفس

فسنا صبحتها من شنب          ودجـــــــى لـــــــيــــلــتها من لعس

وإذا ما هبت الريـح صبا                  صحت واشوقى إلى الأندلس [5]

وشاعر آخر يصف بلاده وصفاً دقيقاً :

حــبــذا أندلس من بلد   لم تزل تنتج لي كل سرور

طائر شاد وظل وارف ومـــيــاه ســائــحـات وقصور [6]

لم يكتف العرب الأندلسيون بما وهبهم الله من الجمال    الطبيعي ، بل عملوا في التنظيم والتنسيق والبناء والإعمار ، وتسابق الأمراء والخلفاء في هذا المجال فبنوا المدن وشيدوا القصور ، وخططوا الرياض والبساتين وغرسوا بها الأشجار والأزهار والرياحين ، وقد تناول لسان الدين ابن الخطيب يصف الأندلس وصفاً دقيقاً بالجمال الطبيعي والكمال الصناعي اللذين يتميز بهما الأندلس :

“وقد خصها الله من الري ، وغدق السقيا ، ولذاذة الأقوات ، وفراهة الحيوان ودرور المياه ، وكثرة الفواكه ، وتبحر العمران ، وجودة اللباس ، وشرف الآنية ، وكثرة السلاح ، وصمة الهواء ، وابيضاض ألوان الإنسان ونبل الأذهان ، وقبول الصنائع ، وشهامة الطباع ، ونفاذ الإدراك ، وإحكام التمدن والاعتمار بما حرمه الكثير من الأقطار ” [7] .

وكان لهذه الطبيعة الساحرة أثرها الكبير في خصب عقول الأندلسيين ، ورفاهية حسهم ، ورقة تصويرهم ، وسعة خيالهم ، ومما ساعد على ازدهار شعر الطبيعة في الأندلس غير الطبيعة نفسها الحياة اللاهية التي عاشها الشعراء نتيجة التحرر والانطلاق في مجتمع الأندلس ، لذا كان الشاعر يعتبر الطبيعة مسرحاً لحياته اللاهية .

وفي أحضانها كان يتسلم للهوه وحبه وخمره ، فعكف على تصوير لهوه وعبثه في مجال الطبيعة ، وكان ممتزجاً بها متفاعلاً معها .

وهناك عوامل أخرى كثيرة في وصف روائع الطبيعة ومعطياتها ولكنها لم تبلغ إلى أوجها إلا في القرن الخامس الهجري ، ففي هذا القرن أخذت الشخصية الثقافية والأدبية في الأندلس تفرض وجودها ، وقد مرت فترة زمنية يسيرة بالأندلس حتى إن شعر الطبيعة قد بلغ إلى أوج ذروته ، وهكذا استأنس العرب بالأندلس الجميلة رويداً رويداً فأحبوها حباً صادقاً وفضلوها على سائر البلدان .

وأخذ الشعراء ينظمون الأشعار الرقيقة وكتابهم ينشرون درراً مسحورين بجمالها وفتنتها يقول ابن خفاجة :

يـــا أهــــل الأنــــدلــــس لله دركـم      مــــاء وظـــل وأنـــهـار وأشجار

مـــاجـــنــــة الــخـلد إلا في دياركم     ولو تخيرت هذا كنت أختار

لا تخشوا بعد ذا أن تدخلوا سقرا         فليس تدخل بعد الجنة النار [8]

خصائص شعر الطبيعة :

يتميز شعر الطبيعة في الأندلس بميزات كثيرة وخصائص عديدة يمكن تلخيصها في نقاط تالية :

  1. شعر الطبيعة صورة صادقة ودقيقة ، حية ونابضة للأندلس وطبيعتها وبيئتها .

إن الشاعر الأندلسي شديد الارتياح إلى الطبيعة ، شديد الشغف بها ، وهى في زحمة الموضوعات ومركز الالتفات، ومنبع التصوير والتنسيق يرجع إليها الشاعر في كل ساعة ، ويصور تصويراً صادقاً ، وامتلأت نفسه وعينه من جمال الحياة وجمال الطبيعة ، فراح يبرز هذا الجمال المعنوي في صور مختلفة من الجمال اللفظي ، وقد أحب الأندلسيون بلادهم ومدنها فتغنوا بها ونظموا شعراً خلد أسماء مدنهم مما يدل على أن كل واحد منهم كان متعلقاً ببلدته ويشتاق ويحن إليها إذا ما غاب عنها ، يقول أبو عمرو الأندلسي :

أشـــجـــاك الـــنسيم حين يهب  أم سنـــا الــــبـــرق إذ يـخب ويخبو

أم هتوف على الأراكة تشدو    أم هــــتــــون مــن الغمامة سكب

كـل هذاك للـــصـــبـــابـــة داع أي صـــــب دمــــــــوعـــــه لا تـصـب

أنـا لولا النسيم والبرق والورق وصــوب الــغـمام ما كنت أصبو

ذكــرتــني شلبا وهيهات منى   بعدما استحكم التباعد شلب [9]

  1. إنه مرآة تنعكس فيها حياة الأندلسيين المترفة بجميع مظاهرها .

إن مدن الأندلس قد حفلت بالقصور الأنيقة التي ولع الملوك بها أيما ولع ، وإن البيئة الأندلسية قد تنعم بالجمال ، وتصطبغ بظلال وارفة وألوان ساحرة ، وقد انعكس ذلك في شعر الأندلسيين بشكل عام حيث ازدحم بصورة متنوعة ملونة تمثل البيئة الطبيعية في هذه الرقعة المسماة بالأندلس .

ومن هنا تشكلت صورة الأندلس في الأذهان متقاربة في أوصافها وألوانها وقسماتها ، ولذلك فإننا لا نستطيع أن نحجب عن ” بلنسية ” وأبيات ابن الزقاق أحد كبار الشعراء في الطبيعة وهو يقول في وصف بلنسية :

بــلـــنســيـة إذا فكرت فيها      وفى آياتها – أسنى البلاد

وأعظم شاهدي منها عليها       وأن جــــمـــالــهــا للــعين باد

كســاها ربـها ديباج حسن       لـهــا علمان من بحر وواد [10]

  1. إنه في غاية السهولة والسذاجة والعذوبة !

وبهذا العنصر لم يترك الشاعر الأندلسي مظهراً من مظاهر الطبيعة الذي أحسه بحواسه وتفاعل معه بمشاعره إلا وصوره وأبدع التصوير فأحسن الوصف في كل موضوع من الموضوعات المعروفة ، ومزج شعراء الأندلس وصف الطبيعة بشرب الخمر ومجالس اللهو والطرب ، والغزل ، والحب ، والرثاء في نطاق العبارة البسيطة السهلة ، واللفظة الأنيقة المنتقاة والجملة الموسيقية الأخاذة مع المحسنات اللفظية والمعنوية بغير تكلف ولا تصنع بل في غاية السهولة لفظاً ومعنىً ، وصف ابن خفاجة الروضة التي قد امتلأت بالأزهار وانتشرت كالدراهم في نطاق العبارة السهلة والاستعارات البديعية فيقول :

وكـــمـــامـة حدر الصباح قناعها                  عن صفحة تندى من الأزهار

في أبـــطـــح رضــعـــت ثغور أقاحه            أخــــلاف كــل غمامة مدرار

نثرت بحجر الأرض فيه يد الصبا                  درر الـــنـــدى ودراهــــم الـنوار

وقــد ارتـدى غصن النقا وتقلدت                  حلي الــحـباب سوالف الأنهار

فحللت حـيث الماء صفحة ضاحك                 جذل وحيث الشط بدء عذار

والريح تـــنــفض بكرة لمم الربى                 والطل يـــنضح أوجه الأشجار

متقسم الألـــحـــاظ بــيــن محاسن                 من ردف رابـــيـــة وخصر قرار

وأراكـــة ســـجــع الهديل بفرعها                 والصبح يسفر عـن جبين نهار

هـــــزت لـــــه أعــــطـــافــها ولـربما           خـــلــعــت عــلــيه ملاءة الأنوار [11]

  1. شعر الطبيعة حل محل النسيب والتشبيب لدى كثير من الشعراء .

إن شعر الطبيعة مزج بالغزل والنسيب ، وصاحب هذه البدعة هو الشاعر الرقيق ابن خفاجة ، إنه يقدم لنا أبياتاً عديدةً محكم الصنع جيد السبك في النسيب ويستفتح قصائده بمجموعة من الأبيات الجزلة يقول في بعضها :

ورب لـــيــــال بــــالــــغـــمــيم ارقتها           لـمرضى جفون بالفرات نيام

يـــــطــــول عـــلـى اليل يا أم مـالك              وكـل ليالي الصب ليل تمام

ولــم أدر ما اشـجي وأدعى إلى الهوى                     أخــــفــــقة برق أم غناء حمام

إذا مـــا اســـتخــفــتـنى لها أريحية                عثرت بـــذيـــلــي لوعة وظلام

وخضخضت دون الحي أحشاء ليلة                       يـــخــفرنى فيها وميض غمام

فــــقـــضـــيـتها ما بين رشفة لوعة               وأنه شــكـوى واعتناق غرام

وأحســــن ما الــــتــفت عليه دجنة                عناق حبيـب عن عناق حسام

فـــلــيت نسيم الريح رفرق أدمعى                 خلال ديـــار بـــاللــوى وخـيام [12]

  1. اتصال شعر الطبيعة بجميع الأغراض .

اتصل شعر الطبيعة بجميع الأغراض الشعرية حتى الرثاء لا يخلو منه ، إن شعراء الأندلس مزجوا شعر الطبيعة بأكثر المناسبات الشعرية المتداولة حتى الرثاء ، وإن مزج الطبيعة بشعر الهموم والشكوى إذن شيئ جديد ولكنه بعد التعليل الأمر بداً غير عجيب أو غريب ، وأما الجديد الغريب عند الشعراء الأندلسيين فهو مزج الطبيعة بالحزن والبكاء في مقام الرثاء .

ولقد التفت شعراء الأندلس إلى هذا المنطق فسجلوا كثيراً من قصائدهم ومقطوعاتهم التي مزجوا فيها الحسرة والألم بذكر الطبيعة وما شملت من جمال وجلال وإشراق وتبسم ، فربما ظنوا أن في إشراقها مخرجاً لمصائبهم وفي بسمتها براءة لمواجعهم .

والنهج الجديد الذي أجاده ابن خفاجة في رثاء الوزير أبي محمد عبد الله ابن ربيعة في شكل الأبيات :

في كـــل ناد مـــنك روض ثناء وبـــكل خد فيك جدول ماء

يا مـــطلـــع الأنـــوار إن بمقلتي         أسفا عليك كمــنشأ الأنواء

وكفى أسى أن لا سفير بيننا     يـــمــشي وأن لا مـــوعـد للقاء

آخر بيت هذه القصيدة .

لا هزني أمل وقد حل الردى    بأبي محمد المحل النائي [13]

إن ابن خفاجة قد أقدم في جرأة على هذا النهج الجديد من مزج الطبيعة بالرثاء الذي لا شك في أن الطبيعة الفاتنة تمثل مولد الحياة وبهجتها وغناءها وبسمتها ، والرثاء نهاية الحياة وآلامها ، وبكاءها والحسرة عليها ، وهذا الجمع بين نقيضين وهوصعب جداً لكن ابن خفاجة جمع بين ضدين بأسلوب جيد وبطريقة أنيقة تستريح إليها النفوس .

* محاضرضيف في قسم اللغة العربية ، جامعة مولانا آزاد الوطنية الأردية .

[1] المقري ، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب ، تحقيق : إحسان عباس ، ( بيروت :     دار صادر 1988م ) 1 : 227 .

[2] مصطفى الشكعة ، الأدب الأندلسي موضوعاته وفنونه ( الطبعة الحادية عشرة ؛ بيروت : دار العلم للملايين 2005م ) ، 248 .

[3] مصطفى الشكعة ، الأدب الأندلسي ، المرجع السابق ، 250 .

[4] أحمد حسن الزيات ، تاريخ الأدب العربي ، ( دهلي : مطبعة فيصل ، د. ت . ) ، 288 .

[5] ديوان ابن خفاجة ، تحقيق : عبد الله سنده ، ( الطبعة الأولى ؛ بيروت : دار المعرفة    2006م ) ، 178 .

[6] مصطفى الشكعة ، الأدب الأندلسي ، المرجع السابق ، 24 .

[7] لسان الدين ابن الخطيب ، أعمال الأعلام في من بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام ، تحقيق : ليفي بروفنسال ( بيروت : الطبعة الثانية ؛ دار المكشوف 1956م ) ، 4 .

[8] ديوان ابن خفاجة ، المرجع السابق ، 133 .

[9] مصطفى الشكعة ، الأدب الأندلسي ، المرجع السابق ، 25 .

[10] المصدر نفسه ، 27 .

[11] ديوان ابن خفاجة ، المرجع السابق ، 133 .

[12] المصدر نفسه ، 307 – 308 .

[13] المصدر نفسه ، 18 – 19 .