التمويل الإسلامي : آفاق وتطلعات
يناير 28, 2025أدب الرحلات :
رحلة إلى الأردن بين المقدسات والمعالم
( الحلقة الرابعة )
الأخ السيد عبد العلي الحسني الندوي *
حي الزرقاء :
قبل غروب الشمس بساعة أوأكثر أخذنا طريق العودة من منطقة ” عجلون ” الجبلية الخلابة التي تتمتع بجمال طبيعتها الساحر وتاريخها اللافت الآسر بعيداً عن صخب الحياة المدنية الهائج بين الغابات والمحميات المندمجة مع القصور والحصون والآثار والأطلال التي تستلفت السياحين من قريب وبعيد ، بل من كل فج عميق .
والآن نقصد إلى ” مدينة الزرقاء ” التي تقع شمال شرق العاصمة بحوالي 20 كم ، حيث تتشبك المدن الثلاثة من عاصمة المملكة ” عمان ” ومدينة ” الرُّصيفة ” والزرقاء ، وهذه الثلاث هي أكبر المدن في المملكة ، وتشكل تجمعاً سكانياً ضخماً وتمثل أعلى عددهم المحليين ، نحن على بعد 60 كم من مدينة الزرقاء ، ولكن لم نتمكن من قطع هذه المسافة القصيرة إلا في ساعتين ، وقمنا بصلاة العصر في المسجد الجميل الذي يقع فيما بين الطريق ، وجمعنا بين الغَداء والعَشاء قبيل المغرب في مطعم شهير بجوار المسجد الجامع لمدينة الزرقاء وتناولناهما معاً نظراً إلى ضيق الوقت وكثرة الزيارات والمشاغل ، ووصلنا إلى موقعنا في مدينة الزرقاء بعد المغرب في ” مركز الدعوة والتبليغ ” الدولي .
مركز الدعوة والتبليغ في ” الزرقاء ” :
وإن هذا المركز وأغصانه المثمرة في طول المملكة وعرضها توفر الغذاء الروحي والماء الزلال لمن غرقوا في اللذات المادية ، فلا يستطيعون الخروج منها ويتكالبون على الأهواء والشهوات ويعمهون في طغيانهم واستهتارهم على شفا جرف هار ، ولكنهم يشعرون بالعطش الروحي والجوع الداخلي ، فيضطلع هذا المركز الدولي الأول في المملكة بمسؤولية الدعوة والتبليغ عبر الذهاب والإياب إلى الشوارع والأسواق والتجول فيها ملتزماً بأحكام الإسلام ومراعياً أصول الدين ، ويقوم بجلب الخَلق إلى المساجد التي تعتبر أساساً في انطلاق الدعوة وإعتاق الناس من براثن الحياة المادية وسلاسل الطقوس المعادية للإسلام والبيئات المتجردة عن الدين ومبادئه وإعلائهم من حضيض المذلة إلى أوج العزة والكمال وإنشاء علاقة المحبة والخشية والسمع والطاعة بين العبد والرب والخالق والمخلوق . فهذا المركز وفروعه المنتشرة في المدن والمحافظات الأخرى من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب تقدم خدمات دينيةً رزينةً مرموقةً وتلعب دوراً مهماً في إنشاء مجتمع إنساني أفضل على أسس إيمانية تربوية وتشكل الأذهان والعقول تشكيلاً سليماً بمعاني الخير ومحافظاً على العادات والتقاليد الإسلامية ، وتملأ الفراغات الهائلة في الحياة الدينية للمسلمين ولا تألو جهداً في إيجاد وعي إيماني فيما بين المسلمين . دخلنا في المسجد عند صلاة العشاء وصلينا فيه مع الناس مع الجماعة وجلسنا قليلاً ، وكان المسجد واسعاً كبيراً مع أنه يماثل مساجد شبه القارة الهندية في التصميم الداخلي وقلة التنظيف والتطييب في المواضئ والحمامات معاكساً للمساجد الأخرى في المملكة ، وذلك لأنه من مراكز الدعوة والتبليغ ، والجماعات من مختلف بقاع المملكة يتوافد الناس باستمرار دون انفصال ويتكدسون فيها بين الفينة والأخرى لمناسبات الاجتماعات الدعوية ، ولما خرجنا من المسجد أعلمنا أحد أن هناك أروقة بجوار المسجد في رعاية المركز وكفالته ولا تمكث الوفود الواردة والضيوف الكرام إلا في غرفها ، وهذا تطور متداول في أكثر بلدان الشرق الأوسط .
بين شوارع الرصيفة :
شاهدنا أنماط الحياة في هذا الحي من مدينة ” الرّصيفة ” المنضمّة في ” الزرقاء ” للحظات ، وتجولنا على شوارعه ، ووجدنا أن الحي قديم يقع وسط البلد حيث كانت الشوارع شاغرةً لتأخر الوقت في الليل ، وكنا نتحول من مكان إلى مكان ونتنقل من شارع إلى شارع ، إذ التفتت عيوننا وارتكزت في دكان الحلويات الشامية التي طارت سمعتها في الآفاق وتداولت في مشارق الأرض ومغاربها وتُعدّ من أشهر أنواع الحلويات وألذّها حول العالم ، وإني لقد جربتها في أكثر الدول العربية التي تيسرت لي زيارتها ، وأُعجبتُ بها منذ يوم طعمتها لأول مرة وأصبحت مولعاً بها ، وأتذوقها أينما نزلت وحللت ، وهذه فرصة أولى بالنسبة لي إذ أنا على وشك تناولها في منطقتها الأصيلة العريقة ، فدخلنا في دكان ورحّبَنا صاحبه والموظفون فيه بحرارة وحفاوة ، واستمتعنا بأنواع من الحلاوى وحمدنا الله وشكرناه ، وفي النهاية عند العودة أصرّ صاحب الدكان على أن نجرب بعضاً من أشهى وأطيب حلوياته مجاناً هديةً من عنده فتذوقنا قليلاً منها لنقدر لفتته الترحيبية المتدفقة ونعبر عن مدى فرحنا وسرورنا باستضافته الممتعة ، وخرجنا من عنده معجبين بتعامله الحسن الرائع معنا . وأخذنا طريق العودة إلى ” عمان ” ، وهي بمسافة بعض دقائق من ” مدينة الزرقاء ” ، وصلنا إلى فندق قرب الساعة العاشرة ليلاً وقد غمرنا التعب والنوم بل بلغ سَيلُهما الزبى ولا نتصبر عليه ولو لبرهة قصيرة ، فباشرنا إلى المضاجع واستغرقنا في نوم عميق .
مغادرة ” عمان ” :
قضينا ليلةً أخيرةً في عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية مدينة ” عمان ” في هذه الرحلة التذكارية ، وأصبحنا يوم السبت مجهّزين أمتعة السفر لمغادرة مدينة عمان إلى المعالم التاريخية والأثرية الأخرى التي تقع في جنوب المملكة في مناطقها الغربية ، مبكراً قبل صلاة الفجر قصدنا إلى المطعم الوطني الشهير ” مطعم هاشم ” للفطور ، وصلينا في مصلاه الفجر مع بعض من موظفيه ، وتناولنا في الفطور أطباقاً تقليديةً وطنيةً من الحمص باللحوم ، المتبل باللحم المفروم والطحينة والزيتون فأكلنا وشبعنا وحمدنا الله وشكرناه ، خرجنا من المطعم ومشينا إلى محطة سيارات الأجرة في البرد القارس مع أن الشمس طالعة تطل من بعيد وتنشر أشعتها الدافئة الناعمة في الأجواء الباردة ، وكأنها جذوة من النار تخمد في الزمهرير ، وصلنا إلى المحطة وبحثنا عن السيارة الميسورة التكلفة ، ووجدناها غير بعيد ، وبينما كانت السيارة تتجه نحو الجنوب وتكاد تقصينا من المدينة الأسطورية جعلنا نلقي عليها نظرة الوداع العابرة حتى اختفى بهاؤها وروعتها من أنظارنا ، ومررنا من خلال المرتفعات الرملية على خطوط التوائية إلى طريق البحر الميت أو الطريق الملوكي ، وهو خط سريع يربط جنوب الأردن بشماله بمسافة 380 كم . يبدأ من العقبة في الجنوب ، ويعبر وادي عربة ، ويحاذي البحر الميت وغور الأردن إلى أن يصل إلى الضواحي الغربية لمدينة إربد في أقصى شمال البلاد ، وتسير سيارتنا الآن بمحاذاة البحر الميت الذي يحده في جانبه الغربي الضفةُ الغربية من أراضي فلسطين المحتلة ، وسميت المناطق الشرقية في فلسطين ” الضفة الغربية ” لضمها إلى المملكة الأردنية الهاشمية رسمياً عقب معاهدة مؤتمر أريحا عام 1950م ، وانتهت سلطة المملكة بقرار فك الارتباط عام 1988م وتخلت الأردن عن جميع مطالبها الإقليمية في الضفة الغربية ، وأنشأ فيها منذئذ كيانٌ إداريٌ للسلطة الفلسطينية يهيمن عليه الاحتلال الإسرائيلي ، ومن ثم تُعرف هذه البقعة العريقة من أرض فلسطين المحتلة ” بالضفة الغربية ” رغم انفكاكها من الأردن قبل عقود ووقوعها وسط شرقي فلسطين .
البحر الميت :
هو البحيرة المليحة التي تقع على حدود الأردن وفلسطين المحتلة ، يصل عرضها في أقصى حد إلى 17 كم بينما يبلغ طولها حوالي 70 كم ، ويحدها من الشرق في الجانب الأردني جبال مأدبا في شمالها ومنطقة ” كرك ” في جنوبها ويحدقها في الجانب الغربي الفلسطيني مرتفعاتُ الخليل والقدس الشريف ، وتقع هذه البحيرة في أكثر بقاع العالم انخفاضاً ويعتبر غورها أدنى نقطة على الكرة الأرضية ، فهي تنخفض عن سطح البحر بمقدار 400 متراً تقريباً ، ولا يوجد في العالم كله أخفض من هذه البقعة ، وتسمى هذه البحيرة ” البحر الميت ” لنسبة ملوحته الشديدة إلى درجة أضعاف بمقارنة البُحيرات والبِحار الأخرى ، وبالتالي لا تستطيع الأسماك والكائنات الحية البحرية العيش فيه ، فسمي بالبحر الميت ، ويعتقد عند أهل الكتاب بما ورد في كتبهم أنه من بقايا مدينة قوم لوط عليه الصلوات والتسليمات بعدما عُذبوا وخُسفوا بما كسبت أيديهم من إتيان الفاحشة التي ما سبقهم بها من أحد من العالمين ، ولا يثبت ذلك بنص من النصوص عند المسلمين وإن ذهب عديد من المفسرين وتواطأت آراء المؤرخين على أن البحر الميت هو مكان الخسف مستدلين بالروايات الإسرائيلية فلا نصدقها ولا نكذبها ، والأحوط أن لا نمر به إلا على وجه الاعتبار والاتعاظ والخوف المانع من العذاب لِما ورد في النص الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحاب الحجر – والحجر واد بين المدينة والشام ، وهو المكان الذي كان يعيش فيه ثمود قوم نبي الله صالح عليه الصلاة والسلام ، وقد نالهم ما نالهم من العذاب لتكذيبهم نبيهم وعصيان أمر الله وذبح الناقة التي أرسلها الله معجزةً لهم – لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم ؛ أن يصيبكم مثل ما أصابهم .
نحن اخترنا هذا الطريق لنتمكن من الإطلال على تلال القدس المحتلة التي تطلع علينا من أرض فلسطين على مسافة أقل من 15 كم وكانت قممها مشرقةً زاهيةً بأشعة الشمس وتشعل في داخلنا رغبة عارمة أن نزورها ونلمسها وننزل فيها معتزين ، ولكن من العيس والعار أننا لم نستطع مسها باليد ولمسها بالعين والرأس والتقبيل على جبينها الغرة البيضاء ، فطارت الأرواح لاحتضانها وبقيت الأجساد في أصفادها ، واستمرنا في مسارنا من الجبال والرمال والشواطئ المليحة والأودية المتدفقة منها المياه والشلالات إلى وُجهتنا القادمة وهي منطقة ” كرك ” الأسطورية التي تقع فيها ساحة غزوة ” مؤتة ” التي غيرت مجرى التاريخ وفتحت أبواب الجنة إلى مهد الظلمة والظلام .
( وللحديث بقية )
* نجل الشيخ السيد بلال عبد الحي الحسني الندوي .