ثلاثية الأبعاد لعلاقات المسلم
سبتمبر 12, 2022القرآن الكريم هو الدستور الأمثل للحياة الإنسانية
أكتوبر 17, 2022وواجب الرباط على ثغر المصطلحات والمفاهيم الشرعية
( الحلقة الثانية الأخيرة )
الدعوة الإسلامية :
درس التربية الإسلامية
وواجب الرباط على ثغر المصطلحات والمفاهيم الشرعية
( الحلقة الثانية الأخيرة )
الأستاذ عبد القادر دغوتي ، المغرب
ثانياً : ضبط المصطلحات والمفاهيم المتداولة بأصول الشرع وقواعده :
شهد العالم في عصرنا الحاضر أحداثاً كثيرةً متلاحقةً ، من نزاعات سياسية وثورات شعبية وانقلابات عسكرية ، وظلم وقتل وبطش وانتهاك للحقوق وعدوان على الأنفس والأعراض والأموال . . . إلخ . وقد صاحب هذه الأحداث تفجير مخزون هائل من المصطلحات والمفاهيم ، فتدفقت بغزارة ، وتم تداولها بشكل واسع ، عبر وسائل الإعلام المتعددة ، وعبر البرامج والمقررات التعليمية أيضاً .
ومن أكثر تلكم المصطلحات تداولاً ، أذكر على سبيل المثال : الجهاد ، المقاومة ، الإرهاب ، التطرف ، الخطاب الديني ، الخلافة ، الدولة الإسلامية ، الدولة الدينية ، الدولة المدنية ، الحرية ، المساواة ، التعايش ، التسامح ، حقوق الإنسان ، التراث ، الاجتهاد ، تجديد الدين ، الأصالة ، المعاصرة ، الحداثة ، التنوير ، الرجعية ، الجمود ، التحرر . . . إلخ .
وكثير من هذه المصطلحات قد تم شحنها بمعان إلحادية وعلمانية وإباحية ، وتحمل ألغاماً ثقافيةً وفكريةً خطيرةً ، قد تنفجر في أذهان الناشئة ، فتهدم وتنقض قناعاتهم الإيمانية ، أو تُحدث لهم تشويشاً واضطراباً فكرياً وثقافياً وإيمانياً ، يترتب عليه اضطراب في الرؤية والتصور ، وبالتبع اضطر أبو زيغ في الأخلاق والسلوك .
ومن ثم يجب الانتباه إلى ما يحصل من تلاعب بهذه المصطلحات ، وما يشوبها من معان ودلالات ذات مقاصد وأبعاد ، تنافي قواعد الشرع الحكيم وقيمه الإيمانية والأخلاقية .
وإن التلاعب بالمصطلحات والمفاهيم يترتب عليه – بلا ريب – تلاعب بقضايا العقيدة نفسها ، ناهيك عن الأحكام والقيم كما تقدم ؛ ذلك أن المصطلحات والألفاظ إنما هي الوعاء التي تصب فيه المعاني والقيم . قال الدكتور علي جمعة : ” فقد لاحظنا أنه قد شاع التلاعب بالمفاهيم بإزاء المصطلحات شيوعاً كاد أن يقضي على الهوية ، وأصاب الأمة بحالة من الفوضى تعكس الأزمة الفكرية التي تمر بها . . . ” [1] .
وذكر لذلك أمثلةً منها قوله : ” وهذا ما تراه الآن بعد احتلال واختلال مفهوم كلمة ( العلم ) ، والتي كانت تعني في تراثنا : ( الإدراك الجازم المطابق للواقع الناشئ عن دليل ) ، والذي شاع استعماله الآن في مقابلة ترجمة اللفظة الإنجليزية ( Science ) ، ومعناها : العلم المدرك بالحس فقط ، دون غيره من وسائل الإدراك العقلية أو السمعية أو العرفانية ، مما أدى إلى القول بأن مسألة الألوهية مسألة غير علمية ، مما يوقع في نفس السامع العامي أنها جهل ، حيث إن الجهل ضد العلم . وقد لُبست كثير من المصطلحات ، وشُوهت بإزائها كثير من المفاهيم مثل الحضارة والدين والتراث والحكومة وغير ذلك . . . ” [2] .
لذلك فإنه من المهم جداً أن يتم الحرص من خلال درس التربية الإسلامية على توجيه هذه المصطلحات ، لتكون معبرةً عن معانيها الإيمانية والتربوية الأصيلة والسليمة ، المنضبطة بأصول الشرع وقواعده وأحكامه ، والمنسجمة مع قيمه ومقاصده وحِكمِه وغاياته ، ونفي كل ما شابها من معان ودلالات خاطئة أو ملتبسة ، ألصقت بها عنوةً لتحريف شرائع الإسلام وقيمه وتمييعها ، واستبعاد مقتضياتها العملية والسلوكية .
ولنا أن نؤصل تأصيلاً شرعياً من خلال الكتاب والسنة ، بإيراد بعض الأمثلة الدالة على مدى عنايتهما بضبط المصطلحات والمفاهيم وحمايتها من العبث والتمييع والتزييف .
(أ) من القرآن الكريم :
سأقتصر على ذكر مثال واحد من القرآن الكريم ، وهو أنه لما استعمل بعض الأعراب مفهوم ” الإيمان ” وادَعوه لأنفسهم مع أنهم لم يكونوا من أهله حقيقةً ، ولم يحققوا مرتبته بعد ؛ رد عليهم القرآن وألزمهم حدودهم ودلهم على المفهوم الأليق بهم وعلى المصطلح الأنسب للتعبير عن حقيقتهم ، وهو ” الإسلام ” . قال الله تعالى : ” قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ ” ( الحجرات : 14 ) . أي : قل لهم يا محمد ! إنكم لم تؤمنوا بعد ، لأن الإيمان تصديقٌ مع ثقةٍ واطمئنانِ قلبٍ ، ولم يحصل لكم ، وإلا لما مننتم على الرسول بالإسلام وترك المقاتلة ، ولكن قولوا : استسلمنا خوف القتل والسبي . قال المفسرون : نزلت في نفر من بني أسد قدموا المدينة في سنة مجدِبة ، وأظهروا الشهادتين ، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتيناك بالأثقال والعيال ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وفلان ، يريدون الصدقة ويمنون على الرسول ” [3] .
قال ابن كثير : ” وقد استفيد من هذه الآية الكريمة أن الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ، ويدل عليه حديث جبريل عليه الصلاة والسلام حين سأل عن الإسلام ثم عن الإيمان ثم عن الإحسان ، فترقى من الأعم إلى الأخص ثم للأخص منه ” [4] .
فانظر كيف وقف القرآن الكريم بالمرصاد لما انتُحل مفهوم ” الإيمان ” ، وادعاه من ادعاه قبل استكمال شروطه ومقتضياته ! وهذا مثالٌ كافٍ للدلالة على مدى اهتمام القرآن بضبط المصطلحات والمفاهيم ، وحمايتها من العبث والانتحال والتلبيس ، وفي ذلك حماية وصون للعقيدة والشريعة والقيم .
(ب) من السنة النبوية :
وفي السنة النبوية الشريفة نجد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يعتمد الأساليب التربوية والفكرية من أجل بناء المفاهيم الإسلامية الصحيحة ، وتطبيقها في حياة الأمة ، لتكون منهاجاً شاملاً في عمليات التربية والتوجيه والإعداد .
نذكر منها على سبيل المثال : منهجه صلى الله عليه وسلم في ترشيد استخدام التعابير وتصحيح المفاهيم ، الذي يمكن اعتباره من أهم الركائز التي قامت عليها أساليب الرسول صلى الله عليه وسلم التربوية والأخلاقية .
وهذا المنهج ذو خاصيات تأسيسية ؛ لأنه تكفل بتحديد المفاهيم وضبط المصطلحات حتى لا يحصل تباين في التصورات واختلاط في المعاني ، حيث عمد المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى أسلوب تثوير العلم وتأسيسه على طريقة التساؤل عن كلمات وتعابير لها مفهومات شائعة عند الناس . فكان يستمع إلى الإجابات ثم يقوم بتصحيحها وترشيدها وفق المنظورالإسلامي وقواعده المنهجية ” [5] .
وسأذكر لهذا مثالين :
مثال (1) : مفهوم ” المفلس ” : أخرج مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل صحابته رضي الله عنهم : على سبيل الإفهام والتعليم والتربية ، فقال : ” أتدرون من المفلس ؟ . قالوا : المفلس فينا لا درهم له ولا متاع . فقال : إن المفلس من أمتي ، يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته . فإن فنيت حسناتُه قبل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ، ثم طُرح في النار ” [6] .
مثال (2) : مفاهيم ” الرقوب ” ، و ” الصعلوك ” ، و ” الصرعة ” : جاء في الحديث عن أبي حصبة أو ابن حصبة عن رجل شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال : أتدرون ما الرقوب ؟ ، قالوا : الذي لا ولد له . قال : الرقوب كل الرقوب الذي له ولد فمات ولم يقدم منهم شيئاً ، قال : أتدرون من الصعلوك ؟ قالوا : الذي ليس له مال ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الصعلوك كل الصعلوك الذي له مال فمات ، ولم يقدم منه شيئاً ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما الصرعة ؟ قالوا : الصريع . فقال صلى الله عليه وسلم : الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ويقشعر شعره فيصرعه غضبه ” [7] .
ففي هذين المثالين نلاحظ النبي صلى الله عليه وسلم يستهدف التمثيلات التي ترسخت عند أصحابه حول مصطلحات تكتنز معاني ودلالات وقيماً معينةً ، مصطبغةً بصبغة البيئة الدينية والثقافية والاجتماعية التي نشأوا فيها قبل الإسلام ، فيعمل صلى الله عليه وسلم على تفكيك وتحليل البنية المصطلحية والمفاهيمية ، ثم إعادة بنائها وترتيبها وتوجيهها ضمن نسق تربوي جديد ، تقتضيه البيئة الثقافية والاجتماعية الجديدة التي تتشكل وفق هدايات الكتاب والسنة .
الخاتمة :
أسجل في ختام هذا المقال أهم الخلاصات ، وهي :
(أ) إن الرصيد المصطلحي والمفاهيمي الشرعي الذي تمتد جذوره إلى أعماق الكتاب والسنة ، يمثل درعاً حصيناً للأمة الإسلامية ، يحمي هويتها وخصوصياتها الثقافية والحضارية من الاختراق والتدمير والذوبان والاندثار ، بفعل التأثير القوي للإرهاب الفكري والثقافي الذي يمارسه الغرب ضدها سعياً لفرض تصوره حول قضايا متعددة مهمة ، كقضايا الحقوق والحريات والمرأة والطفولة والأسرة والصحة والمجتمع والسياسة والاقتصاد والدين والثقافة وغيرها ، وفرض نمط للحياة وفق هذا التصور ، وعولمته .
(ب) إن أخطرعدوان وإرهاب يمارسه الغرب قديماً وحديثاً في صراعه ضد الأمة ، هو استهداف رصيدها المفاهيمي ، بقصد العبث به تحريفاً وتمييعاً وتلبيساً وانتحالاً ، ليسهل بعد ذلك العبث بمقومات الهوية من عقيدة وشريعة وقيم ولغة ؛ إذ أن الرصيد المفاهيمي هو الوعاء الذي يجمع ويحفظ كل هذه المقومات .
(ج) لأجل ذلك يجب التيقظ لتلك الحملات التي يشنها الغرب على حدود مفهيمنا ، للنفاذ من خلال ما قد يحدثه فيها من ثغرات إلى عمق الأمة ، وضرب أركان ومقومات وجودها ونهضتها واستمرارها . قال الدكتور محمد الصغير : ” بل كيف لا يكون إرهاباً تلك المحاولات خطيرة العواقب التي يحضر لها الآن الغرب لحمل الدول الإسلامية على تغيير برامجها التربوية الوطنية والإسلامية ، مستهدفة – تحت غطاء مفهوم التسامح – غسل أدمغة ناشئة وأطفال المسلمين وتغيير مضمون ثقافتهم وهويتهم تبديلاً وتحريفاً حتى يعانقوا مفاهيم الغرب ويقبلوا على اختياراته وبدائله الأخلاقية والفكرية وربما الدينية أيضاً . كيف لا يعتبر كل هذا التدخل في أخص خصائص الهوية الوطنية للغير إرهاباً ؟! ” [8] .
(د) إن درس التربية الإسلامية باعتبار ما له من تأثير إيجابي على الناشئة ، إذ يخاطب فيهم مختلف جوانبهم العقلية والوجدانية والروحية والفطرية والفردية والاجتماعية ، خطابا يستمد قوته من القرآن والسنة ؛ يجب أن تكون أولى أولوياته هي المرابطة على ثغر المصطلحات والمفاهيم الشرعية ، يصد عنها أي عدوان ، ويحميها من أي اختراق ، ويصونها من أي تحريف وتشويش وتلبيس وانتحال . وفي ذلك حمايةً للناشئة من التيه والضلال ، وممن يريد سحبهم إلى دوامة الغربة : الغربة الدينية والثقافية والحضارية . وهي دوامة يصعب الخروج منها بسلام .
وله أن يقوم بهذا الواجب من خلال أمرين :
الأول : إحياء وإبراز ما يراد إماتته وحجبه من المصطلحات والمفاهيم الشرعية .
الثاني : تناول المصطلحات والمفاهيم التي يتم تداولها عبر وسائل الإعلام المتعددة ، يراد بها ترسيخ قيم غربية مخالفة لقيمنا ، مع ضرورة تحرير وضبط هذه المصطلحات بما يوافق أصول الشرع وقواعده ومقاصده ، لإزالة ما يعلق بأذهان الناشئة إزاءها من تشويش وتلبيس وغموض واضطراب .
ولعل من المهم جداً في هذا السياق أن نعترف ” بالدور المتنامي والخطير الذي صار يلعبه الإعلام في العالم الإسلامي المعاصر ، خاصة عبر التوظيف الكثيف للمصطلحات والمفاهيم التي يتم اتخاذها أحياناً معاول أسلحة لغسل الأدمغة أولمحاصرة الخصم وتشويه سمعته بكيفية مقصودة . وليس كمصطلح ( الإسلام ) و ( الأصولية ) و ( التطرف ) و ( الإرهاب ) استعمالاً وتداولاً هذه الأيام ؛ وهي مصطلحات تشكو من غموض ، بل إنها تعاني في التداول الإعلامي من ضبابية وتسيب وقلق ، يزيد في عمق ذلك كله تلقف إعلامنا لتلك المفاهيم وترديده لها ترديداً لا يليق بإعلام يدعي الاستقلالية والموضوعية ” [9] .
والله من وراء القصد وهويهدي السبيل ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
[1] المصطلح الأصولي ومشكلة المفاهيم ، د . علي جمعة محمد ، ص 7 ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، القاهرة ، ط 1 ، 1417هـ – 1996م .
[2] المرجع السابق .
[3] صفوة التفاسير ، 3/223 .
[4] تفسير القرآن العظيم 7/260 ، للإمام الحافظ ابن كثير ، مكتبة الصفا ، القاهرة ، ط 1 ، 1425هـ – 2004م .
[5] مجلة الوعي الإسلامي ، العدد : 671 رجب 1442هـ/مارس 2021م ، مقال للدكتور محمد حسن بدر الدين ، بعنوان : بناء المفاهيم الإسلامية في المنهاج النبوي ، ص 33 و 34 .
[6] صحيح مسلم ، رقم الحديث : 2581/59 .
[7] أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/367 ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع ، رقم الحديث : 3859 .
[8] مجلة المنعطف ، العدد : 20 ، السنة : 1423/2002 ، وجدة ، المغرب ، مقال للدكتور عبد المجيد الصغير ، بعنوان : التباس مفاهيم إعلامنا في عصر العولمة ، ص 60 وما بعدها ، الفقرة توجد بـ : ص 69 .
[9] نفسه ، ص 67 .