الخروج عن الأصل المعتاد لدى علماء العربية وأثره في اللغة العربية ( الحلقة الأولى )
سبتمبر 2, 2024مراحل الشعر العربي حسب تدوين علم العروض
سبتمبر 2, 2024دراسات وأبحاث :
تجربتي في تعلم وتعليم اللغة العربية
أ . د . محمد أيوب الندوي *
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد !
فأخوكم د . محمد أيوب الندوي أستاذ قسم اللغة العربية بالجامعة الملية الإسلامية في نيو دلهي ، العاصمة الهندية ، وكنت رئيس القسم لمدة ثلاث سنوات ثم مديراً للمركز الثقافي العربي الهندي بالجامعة . وهي جامعة حكومية أسسها المسلمون عام 1920م .
أنا من مواليد كشمير الهندية ، ولغتي الأم هي الكشميرية ، وتعلمت اللغة الأردوية الهندية في المدرسة الحكومية ، ثم غادرت إلى مدينة لكناؤ في الهند ، والتحقت بالجامعة المعروفة بدار العلوم ندوة العلماء وتخرجت فيها ، ولذلك لُقبت بالندوي . وحصلت على الماجستير في الأدب الإنجليزي ثم في الأدب العربي ونلت درجة الدكتوراه في الأدب العربي .
أنا أدرّس اللغة العربية وآدابها بالجامعة منذ أكثر من ثلاثين سنة ، ولم أغادر الهند إلا حينما تم تعييني أستاذاً للغة العربية في جامعة الدكتور عبد الرحمن السميط في زنجبار بتنزانيا . وإنما أذكر ذلك لأنني لم أتعلم اللغة العربية إلا في الهند وسوف أشاطركم تجربتي في تعلمها .
كنت أحب اللغة العربية منذ صباي مثلما يحب أي شخص هندي ، لأنها لغة القرآن الحكيم ولغة نبينا الكريم عليه السلام والتسليم . وتعلمت تلاوة القرآن الكريم بدون أن أفهم معانيها في مسجد القرية مع دراستي للعلوم العصرية في المدرسة الحكومية .
بدأت دراستي للغة العربية في ندوة العلماء حينما كنت ابن إحدى عشرة سنة . وكانت اللغة العربية مادةً من المواد التي كانت تدرس هناك . وكانت لغة التدريس هي اللغة الأوردية ، ولكن الكتب التي ندرسها لتعلم اللغة العربية كانت باللغة العربية ودرسنا القواعد أيضاً منذ البداية لأن الهنود يدرسون اللغات في المدارس الحكومية بالقواعد . وربما ذلك سبب من أسباب الضعف في التحدث باللغة المستهدفة .
لقد حكم المسلمون الهند لأكثر من ثمانية قرون ، وخلال هذا الحكم الإسلامي جاء العديد من العلماء العرب وغيرهم من المسلمين والأولياء الصالحين إلى الهند ، واستقروا في أجزاء مختلفة في شبه القارة الهندية . وخلال هذا الحكم ، تم تكثيف الاتصال بين الناس ، وكان هناك تأثير اللغة العربية والفارسية على اللغات الهندية المختلفة .
ولما انتزع الإنجليز الحكم من المغول عام 1857م عارضهم الهنود وخاصةً المسلمون منهم ، وبما أن العلماء المسلمين كانوا يقودون الثورة الهندية عام 1857م فكانوا عرضةً للقتل والاغتصاب على أيدي الاستعمار الإنجليزي . وبعد إخفاق الثورة العظيمة ثورة 1857م أصيب المسلمون بجمود تعليمي واجتماعي وتسرب اليأس إلى نفوسهم وفقدوا الثقة بأنفسهم ومستقبلهم ، فلم ير العلماء أمامهم طريقاً إلا فتح المدارس العربية والمعاهد الدينية ، وبذلك استطاعوا الحفاظ على بقايا الحياة الإسلامية ومكافحة تيار الغرب المدني والثقافي ، وبعد استقرار الحكم الإنجليزي في بلاد الهند ومحاولة تنصيرهم للشعب الهندي خاف العلماء على الجيل الجديد للمسلمين وفكروا في إنقاذ أولادهم من الغزو الثقافي فأسسوا مدارس لهم خاصةً .
وإن أول مدرسة إسلامية خاصة تأسست عام 1866م باسم دار العلوم بديوبند ، وأسسها العالم الكبير الشيخ محمد قاسم النانوتوي ، وكانت هذه المدرسة تدرس العلوم العربية الإسلامية ولم تكن اللغة الإنجليزية داخلةً في المنهج إذ أنهم كانوا يعارضون كل ما يمت إلى الإنجليز المستعمر بسبب .
ثم تكاثرت المدارس الإسلامية في مختلف أنحاء الهند ، وقد كان لهذه المدارس فضل كبير في نشر الدين والدعوة الإسلامية والحفاظ على تعاليم الإسلام وبقاء الثقافة الإسلامية في هذه البلاد .
ولكن لم يكن اهتمام معظم هذه المدارس إلا تدريس العلوم الدينية ، وكانوا يدرسون اللغة العربية وقواعدها من النحو والصرف باللغة الأردوية لأجل أن يستوعب الطلاب المصادر العربية للعلوم الدينية ، ولم يكن همهم أبداً التحدث بهذه اللغة ، ونتيجةً لذلك وجد في الهند علماء كبار متبحرون في علوم التفسير والحديث والفقه وأصوله ، ولكنهم بعيدون عن التحدث باللغة العربية كل البعد .
ولكن هناك استثناء في هذه المدارس في هذا المجال ، ألا وهو جامعة ندوة العلماء التي تأسست عام 1898م ، فإن هذه الدار أَوْلَت – منذ أول يومها – اهتماماً بالغاً بتعليم اللغة العربية كلغة حية منطوقة ، ونتج ذلك في وجود أجيال من العلماء الذين نطقوا بهذه اللغة مثل لغة العرب أو ما هو إليها أقرب .
ومن المدهش للكثيرين أن الإنجليز أسسوا جامعات مختلفةً في مختلف أنحاء الهند لأغراض لهم خاصة ، وأنهم فتحوا أقسام اللغة العربية أيضاً في هذه الجامعات . وبعد استقلال البلاد انتشرت شبكة الجامعات في الهند ، وبهذا نجد أن الهند تولي أهميةً كبيرةً واهتماماً بالغاً باللغة العربية ، لأن هذه اللغة تلعب دوراً هاماً في تعزيز العلاقات الثنائية بين الهند والعالم العربي . وبدأت الهند تهتم بتعليم اللغة العربية الحديثة وعلوم الأدب العربي لأجل الحفاظ على علاقاتها مع العالم العربي وتعزيزها . ويتم تدريس اللغة العربية في المدارس الإسلامية الهندية ، كما يجري تدريسها تقريباً في العديد من الجامعات والكليات الهندية في جميع أنحاء البلاد . وتدرس اللغة العربية حالياً في أكثر من ثلاثة آلاف مدرسة إسلامية ومدرسة حكومية على مستوى الشهادة الثانوية ، وفي أكثر من 70 كلية و35 جامعة على مستوى البكالوريوس والماجستير والشهادات العليا والدكتوراه .
ومن الجدير بالذكر أن المسلمين الهنود يحبون اللغة العربية ويقدسونها تقديساً حتى لا يمكن لمسلم هندي أن يرى ورقةً فيها كلمات عربية ، وهي مرمية على الأرض ، فهو يأخذها ويضعها في مكان مرتفع ، وكذلك يحترم المسلم الهندي شخصاً عربياً احتراماً بالغاً .
ومن دواعي تعلم اللغة العربية في الهند أن معظم المسلمين يتعلمون اللغة العربية للأغراض الدينية ، وإن الهندوس وكثيراً من المسلمين يتعلمونها للأغراض الدنيوية مثل التجارة مع العالم العربي أو للحصول على الوظائف في الدول العربية أو للعمل في الشركات المتعددة الجنسيات أو في مجال السياحة الطبية أو أغراض أخرى كثيرة .
ولا توجد في الهند مدارس للصغار تهتم بتعليم اللغة العربية . وإنما يتم تعليم اللغة العربية للراشدين وللكبار فقط . وكل ذلك يعتبر من أسباب الضعف للتحدث باللغة العربية .
ومن المعروف أن الهند هي شبه قارة وفيها لغات محلية تزيد عن ثلاث مائة ، وسبع عشرة منها لغات رسمية ، وإن اللغة الهندية لغة وطنية واللغة الإنكليزية لغة تواصل مشترك ( Linguafranca ) .
ومما يزيد الطين بلةً أن الطلاب الذين يلتحقون بالمدارس والجامعات هم من مختلف أنحاء البلاد ، فلغاتهم الأم مختلفة ، ونطقهم للأصوات مختلف ، فيصعب على معلمي اللغة العربية للناطقين بغيرها تدريب الطلاب على التحدث باللغة العربية .
فهناك مشاكل عديدة يعانيها المدرس أثناء تعليمه للغة العربية ، ونذكر بعضها لتكون الإشارة كافيةً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
من المشاكل التي نعانيها – نحن أساتذة اللغة العربية في الهند – مشكلة النطق الصحيح للأصوات العربية .
فعلى سبيل المثال أغلبية الطلاب الهنود وحتى كثير من الأساتذة لا يفرقون بين نطق أصوات الذال والزاء والظاء والضاد فكلها زاء عندهم . فكلمة ” الضالين ” عندهم زالين . وكذلك لا يستطيعون أن ينطقوا العين ، بل ينطقونها همزة ، فالعَلَم والأَلَم عندهم سواء .
وبالنسبة إلى الطلاب الذين يأتون من بيئة اللغة الهندية فإنهم ينطقون أصوات الذال والزاء والظاء والضاد جيماً . فالذليل والجليل عندهم سواء .
وينطق كثير من الطلاب الذين يأتون من بيئة اللغة الهندية المحلية في شرق الهند لا يستطيعون أن ينطقوا الشين ، وإنما ينطقونه سيناً .
وإن الطلاب الذين يأتون من بيئة اللغة الهندية لا يفرقون بين الحركات ( الفتحة – الضمة – الكسرة ) وحروف العلة ( و – ا – ي ) . فالعَلَم والعَالَم عندهم سواء .
وكذلك لا يفرق الطلاب من كشمير والبنجاب بين القاف والكاف ، حتى شاعر المشرق العلامة محمد إقبال كان ينطق اسمه إكبال .
وهناك مشاكل في دلالة الكلمات ، فهناك مفردات عربية كثيرة دخلت في اللغة الأردوية ، فبعضها بقيت مع مدلولها ، ولكن العدد الكبير من المفردات تغير معناها ، فهذه الإشكالية تسبب المشكلة في استخدام الكلمة في معناها الصحيح ، فعلى سبيل المثال كلمة مقابَلَة معناه النزاع وملاقاة العدو بالأوردية ، وكلمة ملاقاة تعني مقابلة شخص . وكلمة دنيا تستخدم في معنى العالَم ، وكلمة عورة بمعنى امرأة .
ومن الأنسب أن أذكر هنا أن المكونات لتعليم اللغة الأجنبية هي أربعة : المدرس ، والطالب ، والكتاب ، والبيئة . فإذا اعتبرنا تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها في البلدان العربية ، وجدنا أن المدرس عربي والكتاب عربي والبيئة عربية ، وإن الطالب هو فقط غير عربي ، فنجد أن الطالب يستطيع أن يتعلم اللغة العربية بسهولة .
أما بالنسبة إلى تعليم اللغة العربية في الهند ، فنجد أن المدرس غير عربي ، والطالب غير عربي ، والبلد غير عربي ، وإن الكتاب فقط عربي ، وفي بعض الأحيان يكون الكتاب أيضاً مختلطاً بين اللغة العربية ولغة البلد . فلا نستطيع أن نتوقع من الطالب أن يتكلم باللغة العربية بطلاقة .
وهنا أود أن أشير إلى أن الذين يذهبون من الهند إلى البلدان العربية للدراسات العليا فبما أن أعمارهم تكون كبيرةً فلا يستطيعون أن يتعلموا النطق العربي الصحيح . فإذا تم تعيينهم أساتذة فلا يفيدون الطلاب كبيراً .
ولكن هناك مبعثاً للأمل وهو أن الكتاتيب والمدارس الإسلامية التي يحفظ فيها الصغار القرآن الكريم ويتعلمون تجويد الأصوات العربية هي مثل المنارات التي تنشر نور الأمل لبقاء اللغة العربية ليس في الهند فقط ، بل في جميع أنحاء العالم ، فإن هؤلاء الطلاب حينما يتعلمون اللغة العربية فيتعلمونها بسرعة وبنطق سليم .
وأخيراً ألخص قولي وأقول في ضوء تجربتي لتعلم اللغة العربية إنه يجب الاهتمام بتعليم الأطفال السور القصار من القرآن الكريم بتحويد الأصوات العربية وبحفظ عدد كبير من الأحاديث النبوية والأدعية مع فهم معانيها إذا أمكن .
هذا واحد ، وثانياً لأبد أن نخلق بيئةً اصطناعيةً حيث ندرب طلابنا بالتحدث باللغة العربية ونهتم بتعليم الحوار باللغة العربية ، ولابد أن يكون كل ذلك باللغة الفصحى .
وفي أيامنا هذه نستطيع أن نستغل وسائل مختلفةً للتكنولوجيا ونُسمِع الطلاب الأنباء باللغة العربية في القنوات المعروفة وكذلك نُسمِعهم البيانات على لسان العرب الفصحاء باللغة العربية في اليوتيوب .
* بروفيسور قسم اللغة العربية وآدابها ، الجامعة الملية الإسلامية ، نيو دلهي ، Email: mayub@jmi.ac.in