( الحلقة الثالثة الأخيرة )
الدكتور/ خورشيد أشرف إقبال الندوي
المبحث الثاني : الأثر الاقتصادي للوقف :
الأول : تحقيق الرفاهية الاجتماعية .
الثاني : تحقيق التنمية الاقتصادية .
تبذل الأنظمة الاقتصادية الموجودة في العالم بوسائلها المختلفة قصارى جهودها في تحقيق هدفين أساسيين . هما الرفاهية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية ، ومن ذلك نجد أن النظام الاقتصادي الإسلامي استخدم أيضًا وسائله الخاصة لتحقيق ذلك ، وهذه الوسائل هي :
أولاً : وسائل التمويل المجاني ، وهذه بدورها تنقسم إلى نوعين :
ثانياً : وسائل تمويل استثمارية ، وذلك عن طريق العقود والمعاوضات ، كالمضاربة ، والشركة ، والسلم ، وغيرها .
ولما كان أفراد المجتمع متفاوتون من حيث مستواهم المعيشي ؛ بين أغنياء ، وفقراء ، وأصحاب دخول متوسطة . نجد أن الإسلام سعى إلى التقريب بين هذه الفئات ، وتقليل الفوارق الاجتماعية بينها ، فعمل كنظام اقتصادي على تحقيق التكافل الاجتماعي بين فئاته المتنوعة من خلال رعاية الفقراء وذوي الحاجة والضعف بحيث يتحقق لهم مستوى لائق للمعيشة .
ولقد كان للوقف دور بارز في تحقيق هذه الغاية العظيمة ؛ حيث شمل أنواعًا متعددة من وجوه البر اقتضتها ظروف المجتمع المختلفة ، كالوقف على الذرية والأولاد ، أو المساكين والمحتاجين ، أو ابن السبيل المنقطع ، أو الوقف على المدارس والمساجد والمستشفيات ، والأراضي والعقارات ، والأوقاف للقرض الحسن ، والبيوت الخاصة للفقراء ، والمطاعم التي يفرق فيها الطعام للمحتاجين والفقراء ، ووقف بيوت للحجاج بمكة ينزلون فيها وقت الحج ، ووقف الآبار . بل إنه شمل أيضًا الوقف على شئون الزواج لمن ضاقت أيديهم عن نفقاته ، وغير ذلك [1] .
لا شك أن كل ذلك يحقق تكافلاً اجتماعيًّا فريدًا من نوعه ؛ لأن أصحاب رؤوس الأموال سخروا هذه الأموال التي أوقفوها في سد حاجات المعوزين من أفراد المجتمع ، فكفلوا لهم بذلك حياة كريمة ، وحفظوا عليهم إنسانيتهم وعزتهم من غير إراقة ماء وجوههم في سؤال الناس . وبذلك يكون الإسلام قد أوجد وسيلة لعلاج مشكلة من المشاكل الاقتصادية التي تواجه العالم وهي مشكلة الفقر والبطالة . فشكل الوقف بذلك حلقة من حلقات التكافل والتضامن ، لا سيما وأنه يتميز بدوره المستمر في العطاء والإنفاق ، حيث إن عينه لا تستهلك ، وهذا بدوره يضمن لنا ضمن الظروف الطبيعية دوامًا في إمكانية سد الحاجات الملحة للمجتمع .
يقول الدهلوي : ” إن الرسول صلى الله عليه وسلم استنبط الوقف لمصالح لا توجد في سائر الصدقات ؛ فإن الإنسان ربما يصرف في سبيل الله مالاً كثيراً ثم يفنى ، فيحتاج أولئك الفقراء تارة أخرى ، وتجيئ أقوام آخرون من الفقراء فيبقون محرومين ، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيئ حبساً للفقراء وابن السبيل يصرف عليهم منافعه ويبقى أصله ” [2] .
يراد بالتداول حركة وانتقال للمال ، ومنع تجميده وثبوته في موضع واحد بحيث لا يستفاد منه ؛ لأن هذا المعنى إنما ينطبق على الثروة [3] .
وقد عمل الإسلام على توجيه أموال الأمة وتحريكها وتنشيطها سواء عن طريق التمويل المجاني بنوعيه الإلزامي والتطوعي ، أو عن طريق التمويل الاستثماري ، في خدمة اقتصاد الأمة . فكانت جميع الأموال التي بين أيدي المسلمين متداولة ورائجة رواجًا يحقق المصلحة العامة التي يسعى الشرع الحنيف إلى تحقيقها من خلال سياسته المالية [4] .
والوقف بكونه نوعًا من التمويل الذي جاء به النظام الإسلام ، يمكن الاستفادة منه في تحريك المال وتداوله ؛ وذلك لأن الأموال المدخرة عند الأغنياء إذا أوقفوها بحيث تستغل استغلالاً تجاريًّا يدرّ بربح على الموقوف عليهم ، فإننا بذلك الاستغلال التجاري وجهنا جزءاً من المال إلى السوق التجارية ، الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة في الطلب ، وعندما تحدث الزيادة في الطلب يترتب على ذلك زيادة في الإنتاج لتلبية رغبات الطالبين ، يسير مع زيادة الإنتاج قلة في التكاليف بالإضافة إلى المنافسة التي تتوجه اتجاهين ، تنافس على النوعية ، وتنافس على الكمية . هذا التنافس ينتج عنه إقامة منشآت تجارية من مصانع ، ومستشفيات ، وبالتالي ينشأ لدينا سوق عمل لتلبية احتياجات هذه المنشآت التجارية مما يترتب على ذلك من تشغيل أيد عاملة كانت في السابق تعاني البطالة وقلة العمل ، وهذه الأيدي العاملة يتحرك في يدها المال ويصبح لديها احتياجات ، فيزيد الطلب على السلع في الأسواق بسبب توفر السيولة النقدية ، وهكذا نلاحظ أن العملية أصبحت متواليةً ونشطةً .
يقول الدكتور شوقي : ” شيوع ظاهرة الوقف في المجتمع الإسلامي ، والتنوع الكبير في الأموال الموقوفة ، والجهات الموقوف عليها ، ولّد حركةً استثماريةً شاملةً من خلال إنشاء الصناعات العديدة وتطويرها التي تخدم أغراض الوقف ، ومن ذلك على سبيل المثال : صناعة السجاد ، وصناعة العطور والبخور ،. . . هذه الصناعات التي ازدهرت من جراء عملية الوقف وما تولد عنها من صناعات خادمة ومكملة ، ومن عمل فيها من عمال وفنيين ، وما تولد عنها من دخول ومرتبات وأثمان ، كل ذلك يعدّ إضافات مستمرة إلى الطاقة الإنتاجية القائمة ، أو بعبارة أخرى : مزيداً من الاستثمارات الإنتاجية ، والتي تعتبر دعامة لأي تقدم اقتصادي ” [5] .
وبذلك يكون النظام الاقتصادي الإسلامي من تشريعه للوقف قد حقق عنصر التوازن من خلال التوزيع العادل للثروة ، وعمل على إعادة دوران حركة الأموال والنقود بين أيدي الناس [6] .
ولكن يجب توجيه أموال الوقف توجيهًا سليمًا نحو المشاريع ذات النفع العام وما يحقق مصلحة المجتمع بأسره ، فإذا كانت حاجة الأمة إلى نوع محدد من المشاريع ؛ كالمشاريع الزراعية أو الصناعية أو التجارية ، كان من الواجب أن توجه هذه الأموال إلى الاستثمار في هذه المجالات [7] .
وبذلك نرى مدى واقعية القول الذي يرى أن الوقف إذا خرب أو انعدم نفعه ، فإنه يباع ويحوّل إلى ما يدرّ نفعًا ؛ لأن القصد من الوقف هو سد حاجات الموقوف عليهم واستغناؤهم ، ولا شك أن الوقف إذا لم يحقق هذه الغاية ، فإنه يصبح نوعاً من هدر أموال الأمة ، والإسلام جاء بخلاف ذلك . فإذا كان هذا فيما يتعلق بمصلحة أفراد معينين ، فما يقوم بمصلحة الأمة بأسرها أولى وأحرى بالتطبيق والمراعاة .
يقصد برأس المال البشري : كل ما يمتلكه الإنسان في نفسه من مقومات تسهم في النشاط الاقتصادي وتنميه ، مثل : الخبرة ، والمهارة ، والمعرفة ، والقدرة البدنية [8] .
هذه المقومات التي يقوم عليها رأس المال البشري لا تقل أهمية في التنمية الاقتصادية عن المقومات المالية ؛ لا سيما إذا علمنا أسن الفكر الاقتصادي المعاصر اعتبر الإنفاق على التعليم والصحة هو إنفاق استثماري [9] .
وكما علمنا أن الأوقاف شملت جوانب متعددة بما فيها التعليم والصحة من خلال وقف المدارس ودور التعليم المختلفة ، والمصحات والمستشفيات ، أو الإيقاف عليها .
لم يقتصر أثر الوقف في التعليم عند علم معين ، وإنما شمل أنواعاً مختلفة من العلوم وألوان المعرفة ، سواء في ذلك الشرعي منها والدنيوي من طلب وفلك وصيدلة وغيرها ، مما جعل للوقف دوراً بارزاً في إحداث نهضة علمية شاملة لجميع أنواع المعرفة .
ولقد تنوعت خدمات الوقف لدور التعليم والمتعلمين ، حيث كفلت للمعلمين والمتعلمين شئون التعليم والإقامة والطعام والعلاج ، بل وتأمين أماكن إقامة يأوي إليها المسافرون لطلب العلم . وهذا من شأنه أن يوفّر وسائل التعليم لجميع فئات المجتمع الواحد ، وبالتالي يؤدي إلى وجود أعداد غفيرة من المتعلمين وبتخصصات مختلفة ومتنوعة .
ولكن ما هو الأثر الاقتصادي المتولد من هذه النتيجة ؟
” إن الدراسات في هذا الشأن تثبت أن هؤلاء كان وجودهم واضحاً في ساحة النشاط الاقتصادي للمجتمع الإسلامي ؛ إذ عملوا تجاراً ، وكتبة ، ومحاسبين ، وصيارفة ، وغير ذلك من المهن التي عُرفت في المجتمع ” [10] .
تعد التغذية السليمة والمسكن الصحي والنظافة والعلاج عناصر ومقومات للصحة . ولقد عمل الوقف على الاهتمام بهذه العناصر مما كان له الأثر الكبير في التقدم الاقتصادي .
وبيان ذلك : أنه كان في المجتمع الإسلامي وقوفاً عديدة على المستشفيات والمصحات العامة كفلت لنزلائها العلاج والغذاء وكل ما يلزمه للمحافظة على صحتهم ووقايتهم من الإصابة بالأمراض .
ولما كانت الأيدي العاملة إحدى عناصر الأساسية التي يقوم عليها الإنتاج ، كان لا بد لتفعيل هذا الإنتاج من زيادة كفاءة الأيدي العاملة وقدرتها على إنتاج كميات أكبر وفي وقت أقل ، ولا شك أن هذه الكفاءة الإنتاجية تتوقف درجتها على اعتبارات عدة ، منها : الخدمات الاجتماعية التي تتضمن توفير الحاجيات الأساسية للأفراد من تأمين غذاء سليم ، وتوفير سكن صحي ، والاهتمام بالشئون الصحية والرعاية الطبية [11] ، إضافة إلى الاهتمام بالشئون التعليمية .
بعد استعراض الموضوع من جوانبه المختلفة ، نسجل أهم النتائج التي توصلنا إليها أثناء البحث :
[1] انظر : د/ فؤاد السرطاوي : التمويل الإسلامي ودور القطاع الخاص ، ص 196 ، د/ بيلي إبراهيم : مدى فعالية الضمان الاجتماعي في الاقتصاد الإسلامي ، ضمن مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، ص 282 .
[2] الدهلوي : حجة الله البالغة ، 2/116 .
[3] انظر : محمد العبدة : قراءة في فكر مالك بن نبي ، مجلة البيان ، ص 29 .
[4] انظر : د/ فؤاد السرطاوي : التمويل الإسلامي ودور القطاع الخاص ، ص 44 .
[5] د/ شوقي دنيا : أثر الوقف في إنجاز التنمية الشاملة ، ص 139 .
[6] انظر : د/ فؤاد السرطاوي : التمويل الإسلامي ودور القطاع الخاص ، ص 44 .
[7] انظر : المصدر السابق ، ص 46 .
[8] انظر : د/ شوقي دنيا : أثر الوقف في إنجاز التنمية الشاملة ، ص 135 .
[9] انظر : المصدر السابق .
[10] د/ عبد الملك السيد : الدور الاجتماعي للوقف ، ص 258 ، نقلاً عن بحث : أثر الوقف في إنجاز التنمية الشاملة ، ص 137 .
([11]) انظر : بسام أبو خضير وآخرون : مدخل إلى علم الاقتصاد ، ص 39 .