النظر المقاصدي في السيرة النبوية الشريفة

أعتقونا لوجه الله
نوفمبر 22, 2024
الخروج عن الأصل المعتاد لدى علماء العربية وأثره في اللغة العربية ( الحلقة الثانية الأخيرة )
نوفمبر 22, 2024
أعتقونا لوجه الله
نوفمبر 22, 2024
الخروج عن الأصل المعتاد لدى علماء العربية وأثره في اللغة العربية ( الحلقة الثانية الأخيرة )
نوفمبر 22, 2024

دراسات وأبحاث :

النظر المقاصدي في السيرة النبوية الشريفة

أ . د . رشيد كُهُوس *

تقديم :

لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تظل السيرة النبوية العطرة مجرد جزء من التاريخ ، ذلك بأن الأمة المسلمة اليوم في أشد حاجة إلى معرفة المنهج النبوي في إصلاح النفس وصناعة الإنسان وبناء المجتمع والدولة والعمران ، والذي تكشفه لنا سيرةُ سيدِنا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، للتأسي به في جوانب الحياة الإنسانية كلها ، وإن تحقيق هذا مرتبط بإعادة قراءة النص السيري قراءةً مقاصديةً ، والوعيِ بها ، وتجديدِ فهمها ، بما يتوافق مع قضايا العصر ويؤكد خلود السيرة النبوية وصلاح تنزيلها في كل الأجيال .

وإن تفاصيل السيرة النبوية الغراء في حقيقتها عبارة عن منهاج المقاصد ، إذ هي الوعاء الذي استوعب المقاصد قولاً وفعلاً ، وتنظيراً وتنزيلاً ، تتجاوز حدود الزمان والمكان ، لتجيب عن أسئلة كل عصر وتحل مشكلاته ونوازله ، ذلك بأن المشاهد السيرية ليست قوالب جامدة ، ولم تكن خاصةً بعصر النبوة فقط ، بل هي استوعبت كلَّ مجالات الحياة الإنسانية ، والحالات التي ستمر بها المجتمعات البشرية ، لأنها مصدرُ الأسوة والقدوة لجميع الناس في سائر العصور .

ذلك بأنها تحمل في تفاصيلها وكلياتها منهاج حياة رسولٍ ونبي أنقذ البشرية جمعاء وأخرجها من الظلمات إلى النور ، تجسدت فيها تعاليم الإسلام وأحكامه وعقائده وتشريعاته وأخلاقه ، بصورة كاملة عملية ، فكانت للمسلمين نوراً يستضيئون بها ، وهادياً لهم في سبل الحياة وظلماتها .

من أجل ذلك أحبت الأمة رسالته صلى الله عليه وسلم الخالدة ، وتعلقت بسيرته الطاهرة ، وشخصه العظيم ؛ وسجلت أوصافه وأخلاقه وشمائله ، واعتنت بأيامه ومشاهده ، ذلك بأن سيرته الخالدة تمثل مرحلة تشريعٍ بالنسبة للبشرية جمعاء ، بل إنها مرحلة ميلاد الإنسان من جديد .

وعلى الرغم من المؤلفات السيرية الكثيرة قديماً وحديثاً ، رغم رصانتها وجدتها ، إلا أن أغلبها قد اتسم بالمنهج السردي والقراءة الحرفية والنظرة التجزيئية لنصوص السيرة ومشاهدها ، قراءة اقتصرت على جوانب دون أخرى ، الأمر الذي نتجت عنه تأويلات فاسدة تقصر عن إدراك روح الوحي ومقاصد الشرع التي تجلت في تفاصيل السيرة الغراء .

في حين أن في السيرة النبوية العطرة ثروةً زاخرةً يمكن استثمارها في إعادة تشكيل منهج التفكير والعمل لدى المسلم ، والعودةِ بالأمة إلى وظيفة الشهادة وقيم الخيرية والوسطية والعالمية ، والنهوض بأمانة الاستخلاف في الأرض .

والحاصل أن الأمة اليوم في أمس حاجة إلى النظر المقاصدي في الاستمداد من السيرة النبوية العطرة . فالنظر المقاصدي في الاستمداد السيري إنما استدعته مقتضيات تحقيق خلودها والامتداد بهداياتها ، وبسطها على جميع جوانب الحياة والتدليل على رعايتها لمصالح العباد ، وتخليص الفهم والفقه وعلى الأخص في عصور التقليد والجمود والركود العقلي من النظرة الجزئية والصورة الآلية المجردة البعيدة عن فقه الواقع ، حيث انتهى الأمر إلى قواعد مجردة وقوالب بعيدة عن الارتباط بالغايات الأصلية التي قد تكون انتهى إليها ، إلى درجة قد تفوت المصلحة ، وإعادة توجيهه صوب تحقيق مصالح العباد في معاشهم ومعادهم ، وهي الغاية التي من أجلها جاءت الشريعة وبعث سيد الخليقة وكانت الرسالة ، ومعالجة مشكلات المجتمع والتعامل مع قضاياه وحاجاته [1] .

(1) السيرة النبوية تعبير واقعي عملي عن مقاصد الشريعة :

إن السيرة النبوية جسدت في حقيقتها صورة الإسلام الحية ، ومقاصده العامة والخاصة ، وانطوت على أرقى المقاصد وأكبرها ، وأعلى المصالح وأعظمها ، فمنها استفيدت العديد من الخصائص العملية العامة للإسلام المتصلة بالمقاصد الشرعية ، على نحو خاصية التيسير والتخفيف ورفع الحرج ، والوسطية والاعتدال ، والعدل والرحمة ، واللين والواقعية وغير ذلك من الخصائص الكلية والسمات العامة . . . ومن ثم كانت مفتاحاً لفهم صناعة الحياة الإنسانية والنهضة الإسلامية منذ أكثر من خمسة عشرة قرناً ، فلماذا لا تكون مفتاحا لفهم الحاضر ، وإصلاح الواقع وإبصار المستقبل من أجل إعادة الأمة إلى موقعها الحضاري .

لقد تجلت مقاصد الشريعة في السيرة النبوية تجلياً عملياً ، ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو المبعوث بهذه الشريعة الغراء الخاتمة ، والمبلِّغ لأحكامها ، والمعرِّف بمقاصدها ، ولما كانت مقاصد الشريعة هي المقاصد التي قررها الوحي القرآني ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قرآناً يمشي على الأرض كما وصفته أم المؤمنين السيدة عائشة الصديقية رضي الله عنها ، فقد تجلت هذه المقاصد في أيامه الخالدة ، وحياته اليومية ، وتصرفاته المسددة بالوحي ، إذ من خلال النظر في سيرته الغراء ومنهاجه العملي يتضح لنا بجلاء البعد المقاصدي الذي اصطبغت به سيرته الغراء وسائر تصرفاته الشريفة وأحواله المنيفة وأيامه الخالدة .

لقد حافظت سيرة خير الأنام عليه الصلاة والسلام على مقاصد الشريعة ، وسعت إلى تحصيل مصالح العباد في العاجل والآجل ؛ ومن ثمة كانت في سائر مراحلها وأحوالها ومشاهدها تهدف إلى حفظ مصالح الناس الضرورية فالحاجية ثم التحسينية ، حيث يتم في هذه المستويات الثلاثة الحفاظ على الأصول الكلية الخمسة الممثلة في : الدين والنفس والعقل والنسل أو العرض والمال .

فمن أجل حفظ الدين سخر النبي صلى الله عليه وسلم حياته كلّها لحفظ هذا الدين الذي بعث من أجل تبليغه ، حيث اتخذ دار الأرقم ابن أبي الأرقم بمكة المكرمة مركزاً لتلقين الوحي وتصحيح العقيدة وترسيخ مبادئ الدين في النفوس ، كما اتخذ مسجد المدينة المنورة محضناً للتزكية وتعليم أمور الدين ، كما كانت مشاهده كلّها من أجل إقامة الدين ومن أجل أن يعبد اللهَ تعالى في الأرض .

أما حفظ النفس فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على إحياء النفوس ، مشدداً الوعيد لكل من يعتدي على نفوس الآخرين ظلماً وعدواناً ، حاثاً على كل ما ينفع النفس الإنسانية في الدنيا ويقيها عذاب جهنم في الآخرة .

ولقد أحيا نفوس الخلق ببعثته الغراء ، وأخرجها من عبودية الخلق إلى عبودية الخالق ، ومن ظلمات الجاهلية إلى أنوار الهداية الإيمانية ، وما تدرجه في الدعوة وغزواته وسراياه وبعوثه إلا من أجل الحفاظ على النفوس وإنقاذها من براثين العبودية لغير الله .

ومن أجل حفظ العقل فقد حرر النبي صلى الله عليه وسلم العقول من أوهام الجاهلية وخرافاتها ، ونهى عن كل ما يضر بها ، ورباها على النظر والتدبر في ملكوت السماوات والأرض ، وحثها على العلم ، وحببها في قراءة الكون البديع لتوحيد الله تعالى ، ولتسخير ما بثه الله تعالى في هذا الكون من أجل مصلحة الإنسان .

وفي حفظ النسل أو العرض : فقد كان يحث أصحابه وأمته جمعاء على الزواج ، ويساعد الشباب عليه ، وينهى عن الفواحش والاعتداء على الأعراض ، وعن كل مدنسات الشرف ، كما كان ينزل العقوبة بكل من يعتدي على العرض أو النسل .

أما عن حفظ المال : فقد قال في خطبته يوم حجة الوداع والبلاغ :   ” إِنَّ دِمَاءَكُمْ ، وَأَمْوَالَكُمْ ، وَأَعْرَاضَكُمْ ، بَيْنَكُمْ حَرَامٌ ، ‌كَحُرْمَةِ ‌يَوْمِكُمْ ‌هَذَا ، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ” [2] ، ” لَكُمْ رُؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ” [3] ، فبحماية هذا المقصد هيأ صلى الله عليه وسلم عناصر التماسك والاستقرار ، وهو ما يكفل للناس الأمن الاجتماعي واحترام حقوق الآخرين .

(2) السيرة النبوية أنموذج لتحصيل مصالح العباد في الدارين :

لم تكن وظيفة الرسل مع أقوامهم إلا تحقيقاً لمصالح الخلق في المعاش والمعاد ، وبناءً لقيم الصلاح ، ومكافحةً ودرءًا واجتثاثاً للفساد ، إذ الأصل في المنهاج النبوي العملي : الرحمة بالخَلق ، وهدايتهم ، والتواصل معهم بالمعروف ، والعدل بينهم ؛ وإشاعة قيم التعارف والأخوة والسماحة والعفو ، والبر والقسط بينهم ، وحفظ الأمانة والعهود معهم ، والإحسان لهم في القول والفعل . . . ، وغير ذلك مما اشتملت عليه منظومة القيم والأخلاق النبوية التي هي جوهر الرسالة السماوية وروحها ، فصاحب الرسالة الغراء صلى الله عليه وسلم يقول : ” إنما بُعِثت لأتمِّم صالح الأخلاق ” [4] ، وفي رواية : ” مكارم الأخلاق ” [5] .

هذا ، ولما كانت الشريعة موضوعةً لأجل تحقيق مصالح الناس في الدنيا والآخرة ، وأن حفظ تلك المصالح يتدرج في ثلاث مراتب ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم في سائر تصرفاته الشريفة ومشاهده الخالدة وأحواله المنيفة كان حريصاً على مراعاة قصدِ الشارع إلى تحصيل تلك المصالح  بما يضمن الحفاظ على الكليات الخمس وما يتصل بها أو يلحق بها من مقاصد ومصالح وقيم ، فقد بُعث صلى الله عليه وسلم ميسراً ، وكان منهاجه منهاج التيسير ورفع الحرج وعدم التكليف بالمشاق ، كما أخرج المكلفين عن داعية أهوائهم إلى الالتزام بأحكام الشرع وتوجيهاته وموافقه مقصوده .

وفضلاً عن ذلك فإن السيرة النبوية مدارها على جلب المصالح ودفع المفاسد ، وتقديم المصلحة العامة على الخاصة ، فقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم جزءاً من ثمار المدينة لقبيلة غطفان ، مقابل انصرافهم عن حلفهم الذي عقدوه مع الأحزاب ، وهذا نوع من تفكيك للأحزاب وتشتيت شملهم ، وغطفان كبيرة ومتفرعة ، وقد شاركوا يوم الأحزاب بستة آلاف مقاتل .

ومن ثم فإن رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هي رسالة خير ورحمة وحفظ لمصالح الخليقة كلها ، فلا يكون منها للناس جميعاً إلا الخير والرحمة ، حتى لأولئك المشركين الذين تصدوا للرسالة وأعنتوا صاحبَها ، حيث لم يأخذهم اللهُ بما أخذ به الأممَ السابقة الذين تحدّوا رُسلَ الله ، وكفروا بهم ، وبما يدعونهم إليه .

لقد بعث الله رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم بالرحمة على فترة من الرسل ؛ لإنقاذ الناس من الأوهام التي أُرْكِسُواْ فيها ، وصاروا بها    في عمياء لا يدركون معها حقاً من باطل ، وأنهم كانوا يتسافكون الدماء ، وقد أكلت العداوة كلّ معاني الخير في فطرهم ، واشتفت كلّ ينابيع المودة في صدورهم ، وكان صلى الله عليه وآله سلم رحمةً بلسانه وعمله وإقراره حتى ترك الناسَ على المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها .

ومن ثم فإن المستقرئ للسيرة النبوية الغراء يتضح لـه جلياً أن جميع ما جاءت به الرسالة المحمدية ، وجميع ما اشتملت عليه من عبادات ومعاملات ، وآداب وأخلاق ، وحقوق وواجبات كان مبنياً على أساس حفظ مصالح الخلق في الأولى والآخرة .

(3) النظر النبوي إلى المآلات :

لقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم ما قد يؤول إليه الأمر في جميع تصرفاته وتصرفات أصحابه ، فقد سألت عائشة رضي الله عنها النبيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الجَدْرِ أَمِنَ البَيْتِ هُوَ ؟ قَالَ : ” نَعَمْ ، قُلْتُ : فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي البَيْتِ ؟ قَالَ : إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ ، قُلْتُ : فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا ؟ قَالَ : فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ ، لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ ، فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الجَدْرَ فِي البَيْتِ ، وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأَرْضِ ” [6] .

فتركُ النبي صلى الله عليه وسلم لإعادة الكعبة على قواعد إبراهيم كان مراعاةً لحال أهل مكة ، وقرب عهدهم بالإسلام ، فخشي أن يصيبهم بسبب ذلك نفور ووحشة وريبة تضرّ بدينهم ، نظراً لما تمكّن في قلوبهم من تعظيم بيت الله ، وما نشأوا عليه من رؤية البيت على هذا الحال ، فمراعاة لهذا المآل ترك النبي صلى الله عليه وسلم ما كان أكمل .

قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه على صحيح الإمام مسلم رحمه الله : ” أَخْبَرَ أَنَّ نَقْضَ الْكَعْبَةِ وَرَدَّهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم مَصْلَحَةٌ ، وَلَكِنْ ‌تُعَارِضُهُ ‌مَفْسَدَةٌ ‌أَعْظَمُ ‌مِنْهُ ؛ وَهِيَ خَوْفُ فِتْنَةِ بَعْضِ مَنْ أَسْلَمَ قَرِيبًا ، وَذَلِكَ لِمَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ فَضْلِ الْكَعْبَةِ فَيَرَوْنَ تَغْيِيرَهَا عَظِيمًا فَتَرَكَهَا صلى الله عليه وسلم ” [7] .

وفي مشهد آخر أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين في أكثر حادثة تستوجب القصاص منهم ، وهي حادثة الإفك التي استغلها رأس النفاق ابن أبي سلول للطعن في عرض النبي صلى الله عليه وسلم ، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عن قتله حتى لا يقال إنه يقتل أصحابه ، وحتى لا يؤدي ذلك إلى مفسدة عظيمة ، وهي إشاعة القتل بين المسلمين لتشكيك أحدهم في دين الآخر واتهامه بالنفاق .

إن المتأمل في سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتضح له ذلك الارتباط الوثيق بين الأحكام الشرعية التي تبرزها نصوص السيرة الشريفة ومشاهدها الخالدة من جهة ، ومصالح الأمة الحيوية التي تمثل مقاصد تلك الأحكام من جهة أخرى ، ومن ثم فإن كلَّ ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم يهدف إلى حفظ مصالح الناس العاجلة والآجلة المتعلقة بحياتهم الفردية والأسرية والجماعية والإنسانية ، ودرء المفاسد والمضار عنهم .

(4) الموازنة بين المصالح والمفاسد :

إن الناظر في سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهديها المكي والمدني ليقف على نظر مقاصدي دقيق ، مبني على فقه الواقع ، وفقه الموازنات والأولويات وفقه السنن الإلهية ، فقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة بمكة المكرمة طبيعة الدعوة ، وتدرجها ، وبيئتها ، ومواقف الناس تجاهها ، وقد كف عن دفع مفسدة الاضطهاد والتعذيب الذي تعرض له المسلمون في بداية الدعوة ، درءاً لمفسدة أعظم منها ، وحفاظاً على أنفس المسلمين ، واهتم في هذه المرحلة بصناعة جيل البناء والإصلاح ، كما راعى في المرحلة المدنية قوة المسلمين ، وعدتهم وعددهم ، وما تتطلبه المرحلة من إعداد واستعداد ، فأذن لهم بمقارعة الشرك ودفع العدوان ، تحقيقاً للمصالح العامة للأمة وأمنها الاجتماعي وسلمها الأهلي ، حيث توافرت الشروط المعنوية والمادية لدفع هذه المفاسد كلها .

وفي باب الموازنات يكفي أن نذكر من سيرته الغراء صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية الذي أسس للسلم والطمأنينة والسلام ، مكن المسلمين من بيان قيم الخير والفضيلة والتراحم والمحبة والأخوة في الدين التي جلبت إليها كثيراً من المتطلعين ؛ وهو ما لم يدركه بعض الصحابة أنفسهم إلا بعد حين . . . فقد حقق بهذا الصلح مصالح كثيرة للأمة ، وحقن به دماء أهل مكة والمسلمين جميعاً .

أما يوم الفتح الأعظم لمكة المكرمة فلم يقتص النبي صلى الله عليه وسلم من أولئك الذين آذوه وآذوا أصحابه وأخرجوهم من ديارهم وأخذوا أموالهم بغير حق ؛ وإنما أعلن العفو العام عن أهل مكة حفظاً للأنفس من القتل والسبي ، وإبقاءً للأموال المنقولة والأراضي بيد أصحابها ، وعدم فرض الخراج عليها ، وتقديساً لحرمة البيت العتيق والبلد الحرام ، هذا فضلاً عن تحقيق مصالح أخرى كتأليف قلوب أهل مكة على الإسلام بإبراز سماحة الإسلام ومعاني الرحمة للعالمية في الرسالة المحمدية ، مما دفع بأهلها الذين كانوا يناصبونه العداء إلى الدخول في دين الإسلام أفواجاً .

(5) نحو نظر مقاصدي في السيرة الغراء :

إن إعادة النظر في السيرة النبوية العطرة وفق رؤية مقاصدية ليس نزهةً معرفيةً ، ولا ينبغي أن يكون ، وإنما هو عمل علمي ومشروع حضاري عمراني غايته الخروج بالأمة من واقع الفتنة المعبَّر عنه بأسلوب النبوة ( ذهاب العلم ) ، وذلك بإعادة بناء النسق العلمي للخطاب الشرعي ، وبيان مراعاة الإمكان البشري المعتبر في قصد المكلف ، المانع من تحميل الأمة ما لا طاقة لها به في المنهج النبوي .

ومن ثم فإن النظر المقاصدي في السيرة النبوية هو من أكثر ما تحتاج إليه الأمة المسلمة في الوقت الراهن ، إذ إن ذلك النظرَ يستنطق المشاهد والأحداث والنصوص السيرية ليكتشف عن مقاصد الرسالة النبوية التي جاءت السيرة تطبيقاً ومنهاجاً عملياً لها .

ذلك بأن إحياء مقاصد الوحي وقيمه ، واستدعاء المعاني الإنسانية النبيلة – التي اجتمعت في سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسول الإنسان الكامل في أخلاقه ودينه ، والكامل في نبوته التي استوعبت إرث النبوات السابقة – ، والوقوف على الأبعاد المقاصدية في السيرة النبوية التي لم تنل حظها مثل ما نالته الجوانب الأخرى ، ضرورةٌ للأمة التي تتوق إلى مجدها الخالد وماضيها التليد وخيريتها وشهودها الحضاري .

والحاصل أن النظر المقاصدي في الاستمداد من السيرة النبوية إنما استدعته مقتضيات تحقيق خلودِ السيرة النبوية والامتداد بهداياتها وسننها ، وبسطها على جميع جوانب الحياة الإنسانية والتدليل على رعايتها لمصالح العباد ، وتخليص الفهم من النظرة الجزئية النصفية التبعيضية والصورة الآلية المجردة البعيدة عن فقه الواقع ، حيث انتهى الأمر إلى قواعد مجردة وقوالب بعيدة عن الارتباط بالغايات الأصلية للمنهاج النبوي ، إلى درجة قد تفوت المصلحة ، وإعادة توجيهه صوب تحقيق مصالح العباد في معاشهم ومعادهم ، ومعالجة مشكلاتهم الاجتماعية ، وهي الغاية التي من أجلها جاءت الشريعة وبُعث سيد الخليقة وكانت الرسالة .

ومن ثم فإن النظر المقاصدي في السيرة النبوية هو المدخل الأساس العاصم من الانحراف في الاستمداد منها ، والعاصم أيضاً من الوقوع في الخلل والزلل والاضطراب في فهمهما والوعي بها وتنزيلها .

لذلك فمن الأهمية بمكان – ونحن نتحدث عن النظر المقاصدي في السيرة النبوية – امتلاك القدرة على الوعي بها ، وإدراك مراحلها بدقة ، ومقاصدها في كل مرحلة ، ومرونتها في التعامل مع الواقع من خلال تلك المقاصد ، أمراً ونهياً ، وحظراً وإباحةً ، ورخصةً وعزيمةً ، بحسب الظروف والأحوال ، والاستطاعات والإمكانات المتاحة ، وتوفر الأسباب ، ومن ثم القدرة على تحقيق خلودها ، وذلك بتجريدها من حدود الزمان والمكان وقيودهما ، وتوليد الرؤى ، والأحكام الشرعية ، والحلول النبوية للحالات ، مع مراعاة الأعمار التي يمر بها المجتمع ، وتنزيل هذه الحلول على الواقع في ضوء ظروفه وإمكاناته وموقعه من مسيرة المجتمع الأول وسيرته .

ذلك بأن غياب هذا النظر ، وعدم فقه مقاصدِ التعامل مع الحالات المتنوعة من الواقع ، وأسباب التركيز عليها ، والوقوف عند ظاهر الأحداث السيرية دون النظر في حكمها وعللها ومقاماتها وسياقاتها ومقاصدها ، أدى إلى اختلال منهجي في فهمها ، كما نتج عنه بروز فرق خارجة ، ونتوءات فكرية ، لا تتفق مع توازن السيرة النبوية والمنهاج النبوي وشموله ووسطيته واعتداله وقيمه ومعاني الرحمة فيه ، أخذت بعض الجزئيات وضخمتها ، وحاولت المرابطة من ورائها ، وتعميمها على المنهاج كله ، فاضطربت الأولويات ، واهتزت النِّسب ، وظهرت الثنائيات المتناقضة ، والتعسف في التفسير والتأويل المذهبي ، وهو ما لم يعرفه تنزيل الإسلام الأنموذجي في خير القرون [8] .

ومجمل القول : إن النظر المقاصدي في السيرة النبوية هو المنهج الصحيح لفهمها والوعي بها في كل مراحلها ؛ في مكة المكرمة والمدينة المنورة ، والسلمِ والحرب ، والدعوةِ والتربية والبناء الإصلاح ، والعلاقات الإنسانية والاجتماعية والحضارية والدولية ، والسياسةِ الداخلية والخارجية ، وفي سائر وجوه الحياة المتنوعة .

خلاصة القول :

إن السيرة النبوية العطرة في كل مناحيها انطلقت من اعتبارات مقاصدية ، وسعت إلى تحقيقها والحفاظ عليها ، سواء ما كان منها استجابةً للوحي المنزّل من لدن رب العالمين ، أو ما كان اجتهاداً منه صلى الله عليه وسلم ، مسدداً بالوحي ، والمتأمل في المنهاج النبوية في تعامله مع استطاعة المكلف وفقهه لحالته وتقرير الأحكام الشرعية يدرك أن المنهج النبوي منهج مقاصدي ، والنظر المحمدي نظر مقاصدي ، قائم على جلب المصالح ودرء المفاسد ومراعاة المآلات ، وحفظ الكليات الشرعية والمقاصد النبيلة .

* أستاذ التعليم العالي ورئيس شعبة أصول الدين وتاريخ الأديان – كلية أصول الدين بتطوان – جامعة عبد المالك السعدي – المغرب .

[1] الاجتهاد المقاصدي ، نور الدين الخادمي ، تقديم : عمر عبيد حسنة ، كتاب الأمة ، عدد : 65 – 66 ، قطر ، ط1 ، 1998م ، 1/35 .

[2] صحيح البخاري ، كتاب العلم ، ‌‌بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : ” رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ “، ح 37 .

[3] سنن الترمذي ، أبواب تفسير القرآن ، ‌‌بَابٌ : وَمِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ ، ح 3087 .

[4] مسند أحمد بن حنبل ، 14/513 .

[5] مسند البزار ، 15/364 .

[6] صحيح البخاري ، كتاب الحج ، ‌‌بَابُ فَضْلِ مَكَّةَ وَبُنْيَانِهَا ، ح 1507 .

[7] شرح النووي على صحيح مسلم ، 9/89 .

[8] المنهج النبوي والتغيير الحضاري ، برغوث عبد العزيز بن مبارك ، سلسلة كتاب الأمة الصادر عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر ، العدد 43 ، رمضان 1415هـ ، من تقديم : عمر عبيد حسنة ، ص 10 – 11 بتصرف .