المشتركات الإنسانية بين رفضها واتخاذها وسيلة من وسائل الدعوة

الجنين الإنساني وسفر تكوين الإنسان
نوفمبر 5, 2022
مفهوم الإعجاز التأثيري للقرآن الكريم
يناير 9, 2023
الجنين الإنساني وسفر تكوين الإنسان
نوفمبر 5, 2022
مفهوم الإعجاز التأثيري للقرآن الكريم
يناير 9, 2023

الدعوة الإسلامية :

المشتركات الإنسانية بين رفضها واتخاذها وسيلة من وسائل الدعوة

د . حبيب النامليتي ( البحرين )

فطر الله الإنسانية على سماتٍ عامَّة ، وهي ما يُعبَّر عنها بالمشتركات الإنسانية التي يجتمع الناس على تعظيمها واحترامها على مدار العصور ، وهذه المشتركات تُمثِّل قاعدةً صُلبةً وأرضيَّةً مُوَحَّدَةً للناس كافَّةً ، فمهما اختلفت الثقافات والديانات ، وتعدَّدت اللغات ، وتباعدت الدِّيار ، إلا أَنَّها تجتمع على كُليَّاتٍ لا يُحَاد عنها إلا في حالاتٍ استثنائيّةٍ وظروفٍ قاهرة ، أو مِن قِبَل فئةٍ قليلةٍ يُمثلون خروجاً عن القاعدة .

إن المشتركاتِ الإنسانيةَ قد يُنظر إليها من جانبٍ سلبي ، وذلك بالدعوة للتنازل عن المبادئ الدينية والاندماج الكلي مع الآخرين وجَعْلها بديلاً عن الوَحي المنزل ، كما يمكن أن يُنظر إليها أيضاً من جانبٍ إيجابي على أنها مدخلٌ مهمٌّ للتواصل مع الآخرين من المِلَل والأمم ، وتعريفهم بالإسلام وتعاليمه ، وإنْ وقعَ الاختلاف في عَدِّ بعضها من المشتركات ؛ للاختلاف في الضابط لها ، إلا أنني أُورد هنا أظهرَها وأشهرَها ، وكيف يمكننا أن نجعلها وسيلةً من وسائل الدعوة :

المشترك الأول : الأخلاق الفاضلة ، وهي الصفات الراسخة في النفس ، التي تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر ، والشريعة الإسلامية رسالة أخلاقية متكاملة ، وربطها بمراقبة الله ، والجزاء الأخروي . ومن أصول الأخلاق التي دعت إليها الشريعة : الصبر الذي يحمل صاحبه على الحلم ، والصفح ، والعفة التي تحمل صاحبها على الصدق واجتناب الرذائل ، والشجاعة التي تقود للإقدام على الخير ، والعدل بوضع الأشياء في موازينها الصحيحة . وغنيٌّ عن البيان ما احتفت به هذه الأخلاق من الترغيب فيها والحثِّ عليها ، وهي محترمة معظمة عند البشرية جمعاء ، وإن حصل نقص أو عجز في التطبيق .

وفي امتثال هذه الأخلاق الراقية كسبٌ لقلوب الناس ، وارتقاءٌ بسلوكياتهم ومعاملاتهم ، ولقد تخلَّقها قدوتُنا العظمى ، وأسوتنا  الحسنة ؛ نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم ، وقام بها خير قيامٍ في أقواله وأفعاله كافَّة ، وعُرف بالصدق والأمانة والعفة والعدل ، فكان على خلق عظيم ؛ على خُلُق القرآن والإسلام ، وبذلك صارت أخلاقه منطلقاً للدعوة ، ودستوراً للدعاة ، وكذلك مَن سار على نهجه من الصحابة والتابعين والمرَبِّين والمصلحين .

المشترك الثاني : سعيُ الناس لتلبية احتياجاتهم الأساسيَّة ؛ كتوفير الغذاء واللباس والمسكن ؛ لأنَّ الإسلام يحضُّ على الكسب الطيِّب ، وينظم من التشريعات في النظام الأسري ما يحقق هذه الأساسيات ؛ فَرَبُّ منزل يتحمل هذه المسئولية ، فإن عجز عنها فإن المجتمع يتكاتف فيما بينه لتوفير ذلك للمحتاجين دون النظر إلى دينهم .

والاعتناء بهذا المشترك والمشاركة فيه مع المنظمات الدولية ، والاستجابة لنداءات الاستغاثة في حال الكوارث والمجاعات من المنطلقات للدعوة ؛ فإنَّ عدمَ توفير هذه الاحتياجات يجعل بال الإنسان مضطرباً ، وذهنه مشتَّتاً فيغدو عاجزاً عن الاستجابة للدعوة ؛ لذلك جُعِلت الصدقة في الإسلام من الأبواب العامة ، بل ذهب جماعة من أهل العلم إلى استحقاق بذل الزكاة لغير المسلمين من صنف المؤلفة قلوبهم ؛ ومن ذلك توفير النبي صلى الله عليه وسلم الطعام لأبي ذرٍّ رضي الله عنه – بقدر الموجود – عند مكثه شهراً في مكةَ ، ولمَّا جاء قومٌ حفاةٌ عراةٌ تمعَّر وجهه صلى الله عليه وسلم لـمـا رأى عليهم من آثار الفقر ، فحث المصلين على الصدقة ، حتى اجتمع عنده طعام وثياب كثير ، فتهلل وجهه .

المشترك الثالث : العقل ، وهو غريزة يتهيأ بها الإنسان لفهم الخطاب ، والاستعداد الفطري في الإنسان لإدراك الأشياء ؛ لذلك حث الإسلام على احترامه والاحتكام إليه وفق معيار الشرع المطهَّر ، وجعله من الضرورات الكبرى ، وارتكزت منهجيّته في مخاطبة عقول المخالفين على طرح الموضوعات التي يقبلها العقل بشكل عام ؛ حيث إنَّ هناك أموراً لا تقبلها إلا شريحة من الناس تبعاً لخلفياتهم الاعتقادية ، وقدراتهم على الفهم والاستيعاب ، وهناك أمور أخرى لا يفقهها ولا يقبلها جميع الناس ، فهذه لا ينبغي الحديث عنها عندهم ؛ كما قال أمـير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ” حدثوا الناس بما يعرفون ؛ أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله ” ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : ” ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم ، إلا كان لبعضهم فتنة ” .

ومن ناحيةٍ أخرى ، دعت الشريعة الإسلامية إلى إعمال العقل للوصول إلى فهم الحقائق ، والتحرر من التقليد ، وذلك في نصوص كثيرة ، وختمت آيات كثيرة في القرآن بقول الله تعالى : ( أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) [ آل عمران : 65 ] ، ومن ذلك : قوله تعالى : ( وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) [ النحل : 12 ] ، فالعقل والحجج والبراهين أقرب وأسهل الطرق للتواصل مع مختلف الشرائح .

المشترك الرابع : التسامح ، كمساحة واسعة للتنوع والاختلاف ، وعدم الاتحاد في الرغبات ، والتفاوت في الإمكانات ، بيدَ أنَّ ذلك وفق ترتيب منظَّم ، وترابط مُحكَم ، ومن ينظر في التشريعات الإسلامية يلمس عظمة هذا النظام وصلابته ؛ فقد رفع الإسلام راية التسامح مع الآخرين ، والذي يقصد به وفق ” معجم ( وبستر ) تعنى لفظة Tolerance استعداد المرء لتحمل معتقدات وممارسات وعادات تختلف عما يعتقد به ” ، حيث لم تعرفه المجتمعات الغربية إلا في قرونٍ متأخرةٍ من تاريخها ، ولا يقف التسامح في المفهوم الإسلامي على الشعارات بقدر كونه ممارسة ، فيرفض الإسلام جميع أشكال التمييز العنصري للآخرين سواء كان بسبب اللون أو الأصل أو الجنس ، ويحترم التعددية والتنوع في المعتقدات ، بالرغم من تصريحه وإعلانه بأنَّ الحق واحدٌ ، بل سمح لمن يختلفون مع المسلمين في الدين بالعبادة حسب دياناتهم ، وأتاح لهم تنظيم علاقاتهم الاجتماعية وتعاملاتهم الخاصة .

ومهما وقع من اختلاف فإنَّ حبل الاحترام هو الحلقة الواصلة بين الجميع ، ولم يقف الإسلام على احترام المسلم فقط ، بل جعل لغة الاحترام المنبثقة من التكريم الإنساني هي السائدة في الخطاب الإسلامي ، فقد خاطب النبي صلى الله عليه وسلم الملوك بخطاب يليق بهم ، كما راعت الشريعة حرمة السفير والأسير ؛ إذ كل إنسان يشعر بحاجته إلى الاحترام ؛ فإن الانتقاص يورث الانقباض ، وقد يقدم الإنسان كرامته على حاجاته الأساسية .

هذه بعض المشتركات الإنسانية التي ينطلق منها الداعية إلى الله ، لتكون أرضيَّةً موحَّدةً للتواصل والتعريف بالدين الإسلامي الحنيف ، وقِيَمه العظيمة ، ومبادئه السامية ، ورسالته الخالدة .