الشيخ المحدث محمد نعيم عطا السلوني
مايو 4, 2024الشيخ محب الله لاري الندوي : ذكريات وخواطر
يونيو 4, 2024رجال من التاريخ :
الشيخ عبد الرشيد إبراهيم
( آية من آيات الله وحجة الله على الدعاة )
( الحلقة الأولى )
بقلم : الدكتور غريب جمعة
يقول عالم العلماء وصفوة المجاهدين فضيلة الإمام الأكبر الشيخ / محمد الخضر حسين شيخ الأزهر ( الأسبق ) تحت عنوان الإخلاص في الدعوة :
” تهافت كثير من أصحاب الضمائر المعتلة على منصب الدعوة واجتهدوا في كتم سرائرهم بغاية ما يستطيعون ، وما لبثوا أن انكشف سرهم وافتضح أمرهم سنة الله في الذين يظهرون بغير ما يعلمون من أنفسهم .
وهذا ما يجعل أذكياء الناس يحترسون ممن يخرج في زي مصلح أشد مما يحذرون المجاهرة بإرادة العنت والفساد ” .
ثم يزيد الأمر وضوحاً فيقول : ” والذي يواصل سعيه وينفق معظم حياته في الدعوة قد نصفه بسلامة النية وإرادة الخير لقومه ، ولكنا لا ننعته باسم المصلح إلا إذا صفا منهجه واستقامت آراؤه وفي الدعاة من تطيب سريرته ويخلص قصده ، وإنما يخونه قلة بضاعته في العلم أو قصور نظره عن قياس الأشياء بأشباهها أو اقتباس الفروع من أصولها ” .
ونحن في هذه المرة نتحدث عن داعية صفا منهجه واستقامت آراؤه وطابت سريرته وخلص قصده وحسنت بضاعته .
ذلكم الداعية هو الشيخ عبد الرشيد إبراهيم الذي نحسبه – ولا نزكيه على الله – آية من آيات الله وحجة الله على الدعاة .
المولد والنشأه والتعليم :
ولد هذا الرجل سنة 1846م في مدينة ” تارا ” بوطنه سيبريا ، وربما لا يعرف الكثير من أبناء العالم العربي والإسلامي أن سيبريا كانت مملكةً إسلاميةً تدعى ” صابرى ” ، وكان آخر سلاطينها المسلمين هو السلطان ” علي كوجم ” .
وقد اجتاحت الجحافل الروسية القيصرية العنصرية هذا البلد المسلم ورؤى ذلك السلطان يمشي هائماً على وجهه بعد أن فقد عينيه ومن حوله أكوام من جثث القتلى والجرحى مما لا يعرف عددهم إلا الله ، وغير المعتدون اسم هذا البلد إلى ” سيبيريا ” .
كانت أسرة عبد الرشيد كبقية الأسر ، تتمسك بدينها وتؤدي شعائره ، وكلما زاد بطش المحتلين وطغيانهم ازدادت هذه الأسر تماسكاً بدينها .
بدأ الطفل عبد الرشيد يتعلم الإسلام على أيدي أفراد أسرته وعلى أيدي غيرهم ممن يفهمون الإسلام فهماً صحيحاً ، وكان تعليمه ومن معه من التلاميذ يتم في غفلة عن أعين الروس المحتلين .
الرحلة في طلب العلم :
كانت أسرة عبد الرشيد أسرةً مسلمةً طموحةً تحب أن يصل ولدها إلى أعلى المراتب علماً وخلقاً وسلوكاً .
لذلك أوفدته وهو في الثانية عشرة من عمره إلى مكة المكرمة التي مكث بها عشرين عاماً !! ينهل من مناهل العلم الصافي واللغة العربية الصحيحة ، فتتلمذ على أيدي كبار العلماء في مكة والمدينة المنورة ، فتعلم منهم وأخذ عنهم وتربى على أيديهم وكانت إقامته في منطقة الحجاز تذكره بأمجاد الإسلام وتاريخه الزاهر في محضنه الأول وتزيد من إعجابه بالصحابة والتابعين لهم بإحسان في تضحياتهم في سبيل دينهم بالنفس والنفيس ، وتولد من هذا الإعجاب عنده رغبة صادقة في اتباعهم والسير على دربهم .
العودة إلى وطنه وبداية الجهاد :
عاد عبد الرشيد بزاد وافر طيب من العلوم الإسلامية في مختلف الفروع مع فهم صحيح ورأي سديد لا يزيغ عن الحق ولغة عربية صحيحة ساعدته على فهم القرآن والحديث النبوي الشريف فأصبح كالكوكب اللامع في سماء الدعوة في وطنه حيث أنار الله به البصائر والأبصار وانتفع بعلمه خلق كثير من أبناء وطنه الذين أحبوه وقدروه لعلمه الغزير وخلقه الطيب وسلوكه الحميد .
ولم تمض غير سنوات قليلة حتى رفعه علمه وخلقه إلى انتخابه قاضياً في المحكمة الشرعية ثم وكيلاً للإفتاء الديني .
ولكن الرجل لم يكن ممن تسكرهم خمر المناصب وإن علت فاستطاع بتوفيق الله ثم بإخلاصه أن يسخر منصبه الكبير للتعليم والتوجيه والإرشاد على أحسن ما يكون ، وكل ذلك كان مقروناً بخشية الله وحده جل جلاله .
ولم يقف نشاطه عند هذا الحد بل إنه طالب الحكومة القيصرية المحتلة بوجوب معاملة المسلمين على قدم سواء مع غيرهم لأن الكل أبناء الوطن الواحد وهم متساوون في الحقوق والواجبات ، فلماذا هذه التفرقة العنصرية البغيضة المصحوبة بالإذلال والمهانة .
ويمكرون ويمكر الله :
ضاقت الحكومة القيصرية ذرعاً بنشاط عبد الرشيد وشجاعته في مواجهتها ودعوته أبناء وطنه إلى ذلك ، فلم تعد تسمع له بل تحرك غيظها الدفين ومكرها اللئيم فأغرت به بعض الانتهازيين وضعاف النفوس من المحيطين به فهموا بما لم ينالو وأحسن الرجل أن الملأ يأتمرون به للوقيعة به والقضاء عليه .
ولكن الله ليس بغافل عما دبره هؤلاء المجرمون وقد ضمن النجاة والغلبة لجنده ، فأعان الرجل على الفرار إلى إستانبول وحاق المكر السيئ بأهله وارتد الكيد اللئيم إلى نحور أصحابه .
مواصلة الكفاح في استانبول :
وفي عاصمة الخلافة العثمانية استطاع الرجل أن يرفع صوته ليسمع الدنيا بأسرها بما يقع بقومه من بطش وظلم واضطهاد وتشريد من الحكومة القيصرية المحتلة لأبناء وطنه لأنهم مسلمون .
ولم تكن الخطابة وحدها هي وسيلته الوحيدة في ذلك ، بل أنه طبع رسائل مدعمة بالوقائع والبراهين على ذلك ووزعها في ثبات مدهش وصبر عجيب .
العودة إلى الوطن مرةً أخرى :
لم يكن الشيخ عبد الرشيد من عشاق المناصب كما عرفت ، ولا من عبيد شهوة الإعجاب بالنفس وحب الظهور وكما يقول المثل : حب الظهور قاصم للظهور . وعندما يتخلق الداعية بهذين النقيضين يطفئ الله نور وجهه ويطفئ جذوة الجهاد في نفسه فيتسلل الناس لواذاً من حوله ويتحول كل خير إلى شر وكل معروف إلى منكر وكل استقامة إلى عوج ، وكل صلاح إلى فساد .
وما كاد عبد الرشيد يسمع أن الأمور قد هدأت في وطنه بعض الشيئ حتى ترك منصبه في عاصمة الخلافة الإسلامية وعاد سريعاً إلى وطنه ليبدأ مرحلةً جديدةً من الجهاد المشرف والكفاح الصبور واستطاع أن ينتزع رخصةً من الجهات الرسمية بالسماح له بإصدار رسائل تقوم مقام الصحافة وقد كتبها باللغة التركية القازانية ، وكانت عناوين رسائله على سبيل المثال : المرأة – الصيحة .. وغيرها واستطاع أن يستميل الطبقة المستنيرة إليه فساعدته على نشر هذه الرسائل في جميع أنحاء روسيا باسم ” رسائل عبد الرشيد ” .
وهي تدعوهم إلى فهم دينهم والتمسك به وتصحيح العقائد المنحرفة والمفاهيم المغلوطة وما يدبر بليل من المؤامرات الصليبية لإيذاء المسلمين والطعن في الدين .
ثم اهتم باللغة العربية ليتعرف عليه أبناؤها فكتب بها رسائل بعنوان ” التلميذ ” ليعرف أبناء العربية مآسي قومه ولكن لم يسمعه إلا القليل من الغيورين على لغتهم ودينهم .
وشاء الله أن توقع اليابان بروسيا هزيمة منكرة قصمت ظهر القيصر وظهور حكومته وجيوشه الجرارة فانشغلوا بأنفسهم – ولو قليلاً – عن المسلمين . وعندئذ انطلق المسلمون بقيادة عبد الرشيد إلى نشر الوعي الإسلامي بالمقالات والنشرات وشرح معنى الحرية والدعوة إليها وتحمل ما يحققها من التضحيات .
الرحالة المبشر بالإسلام :
لم يقف عبد الرشيد عند حدود وطنه في الدعوة إلى الله فقد دفعته غيرته المتأججة على دينه وحميته الإسلامية أن يجاهد في ميدان آخر وهو أرحب وأوسع وهو التبشير بالإسلام ، وقام في سبيل ذلك برحلات عديدة إلى أوطان مختلفة .
هذه الرحلات وهذه الجهود الجبارة تجعلك تتساءل كيف استطاع هذا الرجل الأعزل إلا من إيمانه وعزيمته أن يسافر إلى كل تلك البلدان ومنها على سبيل المثال لا الحصر : باكستان – منشوريا – بلاد المغول – اليابان – كوريا – الصين – سنغافوره – الهند – جزر ما وراء الهند – مصر وغيرها كثير في آسيا وأفريقيا .
كل ذلك من أجل أن يفقه الناس فيدينهم ويعلمهم الإسلام الصحيح في بلدان لا تعرف من الإسلام سوى اسمه ثم هو يجمع التبرعات لإقامة المساجد التي أذن الله أن ترفع في مجاهل آسيا وأفريقيا ثم يختار لها أفضل الأئمة حتى تؤدي رسالتها على الوجه الأكمل .
لقد اقتحم الرجل كل عقبة للدفاع عن الإسلام والتبشير والدعوة إلى الصلاح والخلق الكريم .
لم يكن طريق الرجل مفروشاً بالورود والرياحين ، بل واجه طوائف من المبطلين والمفسدين والضالين المضلين ذوي النفوس الطاغية والأحلام الطائشة والألسنة المقذعة ، وربما كان لديهم أيد باطشة وأرجل في الخير غير ساعية .
لم يكن الرجل يسافر بالدرجة الأولى المكيفة ولا في درجة رجال الأعمال ولا ينزل في قاعات كبار الزوار ولا يقيم في فنادق سبعة نجوم ولا حتى ثلاثة نجوم .
لم يكن الرجل في شيئ من ذلك ولكنه أتى بأعمال تعجز عنها مؤسسات دعوية حكومية أو وزارة من وزارات الأوقاف فقد أدخل الله على يديه الإسلام آلافاً مؤلفةً ممن كانوا لا يعرفون عن الإسلام شيئاً ولا حتى عن معنى الدين .
نقول ذلك في وقت انحطت فيه الهمم وضاعت المروءة حتى قال الشاعر الحكيم مصوراً حال المروءة أصدق تصوير :
مرت على المروءة وهي تبكي فـقلــت علام تنتحب الفتاة
فقالت كيف لا أبكي وأهلي جميعاً دون خلق الله ماتوا
ولا عجب أن يحقق الله على يدي هذا الرجل كل هذه الأعمال فهو سبحانه القائل : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) . [ العنكبوت : 69 ] .
قال أبو سليمان الداراني : ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط ، بل هو نصر الدين والرد على المبطلين وقمع الظالمين وأعظمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله وهو الجهاد الأكبر .
والله مع المحسنين بالنصرة والمعونة والحفظ والهداية ومع جميع الناس بالإحاطة والقدرة فتكون فائدة المجاهدين في طاعة الله أمرين :
التوفيق للخير والإيمان والسعادة ثم العون والتأييد والحفظ . ( انظر التفسير المنير ، د . وهبة الزحيلي ) .
( للحديث بقية )