الإسراء والمعراج ؛ بين المنحة والمحنة
فبراير 21, 2021العدالة الاجتماعية والمساواة الإنسانية في المجتمعات الإسلامية
مايو 3, 2021الدعوة الإسلامية :
الشكر لله سبحانه وأثره في سعادة الأمم
الشيخ الطاهر بدوي *
عرف العلماء الكرام الشكر لله تعالى بأنه : ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناءً واعترافاً، وعلى قلبه شهوداً ومحبةً ، وعلى جوارحه انقياداً وطاعةً . فالشاكر إذاً من يكون لسانه مشتغلاً بالثناء على ربه معترفاً له بنعمه، ويكون قلبه مملوءاً محبة لله على هذه النعم ، وشهوداً بأنها منه جل وعلا فضلاً عليه وإحساناً ، وتكون جوارحه مشتغلةً بطاعة الله ، استسلاماً له وانقياداً .
لهذا كان الشكر من مظاهر العبادة التي دعا إليها القرآن الكريم في أكثر من موضع . قال جل وعز : ” يا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ . إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ ، فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ” ( البقرة : 172 – 173 ) .
إن الله تعالى ينادي الذين آمنوا بالصفة التي تربطهم به سبحانه ، وتوحي إليهم أن يتلقوا منه الشرائع ، وأن يأخذوا عنه الحلال والحرام ويذكرهم بما رزقهم ، فهو وحده الرزاق ، ويبيح لهم الطيبات مما رزقهم ، فيشعرهم أنه لم يمنع عنهم طيباً من الطيبات ، وأنه إذا حرم عليهم شيئاً فلأنه خبيث غير طيب ، لا لأنه يريد أن يحرمهم ويضيق عليهم ، وهو الذي أفاض عليهم الرزق ابتداءً ، ويوجههم للشكر إن كانوا يريدون أن يعبدوه وحده بلا شريك ، فيوحي إليهم بأن الشكر عبادة وطاعة يرضاها الله من العباد ، كل ذلك في آية واحدة قليلة الكلمات ، ثم يبين لهم المحرمات من المآكل نصاً وتحديداً باستعمال أداة ” إنما ” .
والميتة تأباها النفس السليمة وكذلك الدم ، فضلاً على ما أثبته الطب بعد فترة طويلة من تحريم القرآن والتوراة قبله بإذن الله تعالى ، من تجمع الميكروبات والمواد الضارة في الميتة وفي الدم ، ولا ندري إن كان الطب الحديث قد استقصى ما فيها من الأذى أم أن هناك أسباباً أخرى للتحريم لم يكشف عنها بعد للناس .
فأما الخنزير فيجادل فيه الآن قوم . . . والخنزير بذاته منفر للطبع النظيف القويم ، ومع هذا فقد حرَّمه الله منذ ذلك الأمد الطويل ليكشف علمُ الناس منذ قليل أن في لحمه ودمه وأمعائه دودة شديدة الخطورة ( الدودة الشريطية وبويضاتها المتكيسة ) . ويقول الآن قوم : إن وسائل الطهي الحديثة قد تقدمت ، فلم تعد هذه الديدان وبويضاتها مصدر خطر لأن إبادتها مضمونة بالحرارة العالية التي توافرها وسائل الطهي الحديثة ، وينسى هؤلاء الناس أن علمهم هذا قد احتاج إلى قرون طويلة ليكشف آفة واحدة ، فمن ذا الذي يجزم بأن ليس هناك آفات أخرى في لحم الخنزير لم يكشف بعد عنها ؟ أفلا تستحق الشريعة التي سبقت هذا العلم البشري بعشرات القرون أن نثق بها وندع كلمة الفصل لها ، ونحرم ما حرمت ، ونحل ما أحلت ، وهي من لدن حكيم خبير .
أما ما أهل به لغير الله أي ما توجه به صاحبه لغير الله فهو محرم لا لعلة فيه ، ولكن للتوجه به لغير الله ، محرم لعلة روحية تنافي صحة التصور وسلامة القلب وطهارة الروح وخلوص الضمير ووحدة المتجه ، فهو ملحق بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية على هذا المعنى المشترك للنجاسة ، وهو ألصق بالعقيدة من سائر المحرمات قبله ، وقد حرص الإسلام على أن يكون التوجه لله وحده بلا شريك ، وترى الإسلام من جهة أخرى يحسب حساب الضرورات فيبيح فيها المحظورات ويحل فيها المحرمات لكن بقدر ما تنتفي هذه الضرورات بغير تجاوز لها ولا تعد لحدودها .
فأيما ضرورة ملجئة يخشى منها على الحياة فلصاحبها أن يتفادى هذا الحرج بتناول المحظور في الحدود التي تدفع هذه الضرورة ولا زيادة .
وكلمة الشكر ، كما قال الشيخ محمد مصطفى المراغي في ” مجلة الأزهر ” : ” من الكلم الجوامع التي تنتظم كل خير وتشمل كل ما يصلح به قلب الإنسان ولسانه وجوارحه ، فالذي لا يحب الله ولا يشهد قلبه بأن ما فيه من النعم إنما هو من الله فضلاً وإحساناً ليس بشاكر ، والذي لا يثني على ربه ولا يحمده بلسانه ويخوض في الباطل ويشغل لسانه بلغو القول ولهو الحديث ليس بشاكر ، والذي يعطيه الله من العلم شيئاً ولا يعمل به ولا يعلمه الناس ليس بشاكر ، والذي يعطيه من المال ما يستعين به على طاعته بصرفه في وجوه الخير والبر ويبخل به أو يصرفه في معاصي الله ليس بشاكر ” ، فقد دعا الله تعالى إلى التخلق بالشكر في كثير من الآيات قال جل وعز في سورة الزمر : ” بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ وَكُن مِّنَ ٱلشَّاكِرِينَ ” ( 66 ) .
ولله در حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي حين يتفنن في إعطائنا صوراً كثيرةً للشكر فيذكر رحمه الله في ” الإحياء ” : ” أن حياء العبد من تتابع نعم الله عليه شكر ، ومعرفته بتقصيره عن الشكر شكر ، والاعتذار عن قلة الشكر شكر ، والمعرفة بعظيم حلم الله وكنف ستره شكر ، والاعتراف بأن النعم ابتداء من الله تعالى من غير استحقاق شكر ، والعلم بأن الشكر أيضاً نعمة من نعم الله وموهبة منه شكر ، وحسن التواضع للنعم والتذلل فيها شكر ، وشكر الوسائط شكر ، وقلة الاعتراض وحسن الأدب بين يدي المنعم شكر ، وتلقي النعم بحسن القبول واستعظام صغيرها شكر . . إلخ ” .
ولقد عنيت السنة المطهرة بالحث على شكر الناس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” من لم يشكر الناس لا يشكر الله ” . لأن الذي لا يقدِّر صنيع الناس الجميل معه ولا يشكرهم عليه يكون مقصراً في حق الله تعالى . وقد جاء في كتاب ” النهاية ” أن الله تعالى لا يقبل شكر الإنسان على إحسانه عليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس ويكفر معروفهم لاتصال أحد الأمرين بالآخر . وقد أرشد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى طريق الشكر الناس بقوله : ” من أعطى عطاء فوجد فليجز به ، ومن لم يجد فليثن ، فإن من أثنى فقد شكر ، ومن كتم فقد كفر ” . ويقول عليه الصلاة والسلام : ” من صنع إليكم معروفاً فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئون به فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه ” .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ” لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه المهاجرون فقالوا : ” يا رسول الله ! ما رأينا قوماً أبذل من كثير ولا أحسن مواساةً من قليل من قوم نزلنا بين أظهرهم ، يعنون الأنصار ، لقد كفونا المؤونة وأشركونا في المهنأ ( أي محل الهناء والسرور ) ، حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله ” ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ” لا ، ما دعوتم لهم وأثنيتم عليهم ” .
ومنفعة الشكر لا تعود على الله ، فإنه سبحانه لا ينتفع بشكر الشاكرين ولا يتضرر جل وعلا بكفر الكافرين ، وإنما تعود منفعته على العبد الشاكر ، فهو يطهر النفوس ويقربها من الله ويوجه إرادتها إلى الوجهة الصالحة في إنفاق النعم في وجوهها المشروعة . أما كفران النعم فيعرضها للزوال ، لأنها تجعل المرء غير مبال بها ويبددها بدون منفعة ويتلف ما أنعم الله به عليه من النعم الظاهرة والباطنة وتراه يسير على غير المنهج الذي رسمه له الخالق فيؤدي به إلى غضب الله تعالى والبعد عن رحمته . والقرآن يخبر بأن خراب الأمم كان سببه كفران النعم وعدم الشكر لله قال سبحانه حكايةً عن مكة قبل الدعوة المحمدية وبعدها : ” وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ” ( النحل : 112 ) .
لقد جعل الله في مكة بيته الحرام وجعلها بلداً حراماً ، من دخله فهو آمن مطمئن ، لا تمتد إليه يد ولو كان قاتلاً ، ولا يجرؤ أحد على إيذائه وهو في جوار بيت الله الكريم . وكان الناس يتخطفون من حول البيت ، وأهل مكة في حراسته وحمايته آمنون مطمئنون . كذلك كان رزقهم يأتيهم هنيئاً من كل مكان من الحجيج ومع القوافل الآمنة ، مع أنهم في واد قفر جدب غير ذي زرع ، فكانت تجبى إليهم ثمرات كل شيئ فيتذوقون طعم الأمن وطعم الرغد منذ دعوة سيدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام .
ثم إذا رسول منهم ، يعرفونه صادقاً أميناً ، ولا يعرفون عنه ما يشين ، يبعثه الله فيهم رحمةً لهم وللعالمين ، دينه دين سيدنا إبراهيم باني البيت الذي ينعمون في جواره بالأمن والطمأنينة والعيش الرغيد ، فإذا هم يكذبونه ، ويفترون عليه الافتراءات وينزلون به وبمن اتبعوه الأذى وهم ظالمون ، وكان رد القدرة الإلهية أن أذاقتهم ” لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ” . وانظر كيف يجسم التعبير القرآني الجوع والخوف فيجعله لباساً ، ويجعلهم يذوقون هذا اللباس ذوقاً ، لأن الذوق أعمق أثراً في الحس من مساس اللباس للجلد ، وتتداخل في التعبير استجابات الحواس فتضاعف مس الجوع والخوف لهم ولدغه وتأثيره وتغلغله في النفوس ، لعلهم يشفقون من تلك العاقبة التي تنتظرهم لتأخذهم وهم ظالمون .
ويذكر لنا القرآن الكريم أيضاً في هذا السياق قصة قوم سبأ وما حلَّ بهم لكفرهم نعم ربهم . قال جل ذكره في سورة سبأ : ” لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ . فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ . ذٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ ” . ( 15 – 17 ) . فأعرضوا عن شكر الله وعن العمل الصالح والتصرف الحميد فيما أنعم الله عليهم فسلبهم سبب هذا الرخاء الجميل الذي يعيشون فيه وأرسل السيل الجارف الذي يحمل العرم في طريقه وهي الحجارة لشدة تدفقه ، فحطم السد وانساحت المياه فطغت وأغرقت ثم لم يعد الماء يخزن بعد ذلك فجفت واحترقت وتبدلت تلك الجنان الفيحاء صحراء تتناثر فيها الأشجار البرية الخشنة . . . فبدلهم من الرفاهية والنعماء خشونةً وشدةً ولكن لم يمزقهم بعد ولم يغرقهم . وكان العمران لا يزال متصلاً بينهم وبين القرى المباركة : مكة في الجزيرة وبيت المقدس في الشام . فقد كانت اليمن ما تزال عامرةً في شمال بلاد سبأ ومتصلةً بالقرى المباركة ، والطريق بينهما عامر مطروق مسلوك مأمون إلى أن دعوا ربهم ” فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا ” . فاستجيبت دعوتهم ، ولكن كما ينبغي أن تستجاب دعوة البطر . . فشردوا ومزقوا شر ممزق وتفرقوا في أنحاء الجزيرة مبددي الشمل وعادوا أحاديث يرويها الرواة وقصة على الألسنة والأفواه بعد أن كانوا أمةً ذات وجود في الحياة !!!
فالشكر من دعائم سعادة الأمم والتنكب عنه لا يجلب غير الدمار والخراب ، وحبذا لو فهمت أمتنا هذه الحقائق ، ويا ليتها أدركت أن ما أصابها من تمزق وجوع وخوف كان لبعدها عن المنهج القويم . . فهذه سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً . . . .
* كبير علماء الجزائر .