اصطفاء الله لبعض عباده وإكرامه لهم
ديسمبر 11, 2023قصة صاحب الجنتين ومآل الجهود الإنسانية ( الحلقة الثانية الأخيرة )
يناير 14, 2024التوجيه الإسلامي :
الإسلام والعلم الحديث
الإمام الشيخ السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي
[ محاضرة ألقاها الإمام الندوي بماليزيا ، أمام نخبة من علماء وأساتذة العلم الحديث ، ومجموعة كبيرة من أساتذة الجامعة وطلابها ، وذلك في 7/ أبريل 1987م – التحرير ]
إخواني أساتذة الجامعة وطلبتها والدارسين فيها ! تعلمون جميعاً ، بل يؤمن كلكم أن القرآن هو كتاب الله المنزل من السماء ، وهو كتاب عقيدة وعبادة ، وهو الكتاب الذي يربط الخلق بالخالق ، ويبين للخلق كيف يُرضون الخالق ، وكيف يتقربون إليه ، وكيف ينالون رضاه ، ويستحقون رحمته ، لذلك فإن القرآن ليس كتاب هندسة ، ولا كتاب صناعة يعلِّم الصناعات ، أو يشير إلى العلوم التكنالوجية ، إنه لا يذكر فقط أنَّ الله خلق الزجاج ، وخلق الحديد ، لا بل يقول : ( وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ ) ، إِنَّ هذا التعبير ، ونسبة الفعل إلى الله تبارك وتعالى تدل على أن للحديد أهميةً ومكانةً ، ثم من المعلوم أن الحديد يُستخرج من المعادن ، ويولد ، ويتكوّن في طبقات الأرض ، ويُستخرج من المعادن ، فكيف قال الله تعالى: ( وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ ) [ الحديد : ٢٥ ] معنى ذلك أن قدرة الله تناولت الحديد ، واتجهت إلى الحديد ، فخلقه الله في كمية كبيرة ، وفي قوَّةٍ عظيمة ، ولفائدة جليلة ، وفي نفع عام ، فإن الله سبحانه يضيف صيغة الإنزال إلى الكتب السماوية وإلى النعمة الكبيرة ، ولكن نفس التعبير جاء للحديد ، فقال : ( وَأَنزَلْنَا الحديد ) [ الحديد : ٢٥ ] يعني : كان وجود الحديد بإرادة الله تعالى ، وإرادته عالية قاهرة غالية ، وقادرة على كل شيئ ، فالتعبير يدل على أن للحديد أهميةً ، ومكانة ، وأنه شيئ قد اتجهت إليه إرادة الله تبارك وتعالى ، فخلقه كأنه أنزله من السماء ، فيقول : ( وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسُ شَدِيدٌ ) [ الحديد : ٢٥ ] وهذا تعبير قرآني ، ولي مشاركةٌ باللغة العربية ، كما أشار إلى ذلك الذي تولى تعريفي ، وذكر أساتذي ، وأكثرهم من العرب ، ولكني أقول بسبب معرفتي للغة العربية وشغفي بها : إنَّ التعبير : ( فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ) [ الحديد : 25 ] هذا تعبير قرآني معجز ، ومهما قيل : فيه بأس شديد تصنع منه الأسلحة ، تصنع منه الآلات ، تصنع منه المفاتيح ، ولكن لم يُفد شيئاً من هذا المعنى الذي في قوله تعالى : ( فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ) [ الحديد : ٢٥ ] ، لأن كلمة البأس بليغة جداً ، وجامعة ، تشمل الحروب ، وتشمل الدفاع ، وتشمل ما يمنع ، وما فيه شوكة ، وصولةٌ ، وقوة ، ولذلك قال : ( وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ) [ الحديد : ٢٥ ] ثم قال : ( وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) [ الحديد : ٢٥ ] ، فجعلها نكرةً ولم يذكر منافع خاصةً ، ولو ذكر منافع خاصةً كان خاصةً بعصر دون عصر ، وبلد دون بلد ، ولكن مهما تقدم علم التكنالوجيا ، ومهما تقدَّم علم الصناعة ، ومهما تقدَّم فن الحرب والاستراتيجية ، فإنَّ الآية تشمل كل هذا ؛ لأنَّ الله يقول : ( وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) [ الحديد : ٢٥ ] ، لأنَّ الفوائد لم يحصرها الله تعالى ، ولم يعدها عداً ، فهذه قطعة قرآنية رائعةٌ تستحق التأمل ، ونحن نعرف ما نشتغل به ، فإذا كانت بيئتنا حسنةً ، وإذا كانت جامعة تكنالوجية في أي بلد أنشأها المسلمون ليكونوا أقوياء ، ليكونوا علماء ، ليكونوا عارفين بأسرار الله تبارك وتعالى ، أسرار قدرة الله تعالى ، ويستعملوها لصالح الإنسانية ، ويستخدموها لسعادة البشرية ، فيكون ذلك في محله .
لقد كان موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم نفس موقف القرآن من العلوم ، ومن الطاقات ، ومن الوسائل والآلات ، وهو أول نبي وآخر نبي كان يعرف قيمة العلم ، وكان حريصاً على أن يتعلم الناس ، ويقرؤوا ، ويكتبوا مع أنه كان أمياً ، ولكنه كان حريصاً على أن يتعلم المسلمون ، فقد جاء في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي أن أسارى بدر منهم من كان لا يملك ما يفتدي به ، فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم فديته أن يعلم الكتابة عشرةً من الأطفال ، ويعلم عشرةً من المسلمين ، يعلمهم الكتابة والقراءة ، وكان يعرف قيمة الأسلحة الحربية ، وقيمة ما يدافع به الإنسان عن نفسه ، وقد جاء في حديث معناه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ” ارموا بني إسماعيل ، فإنَّ أباكم كان رامياً ” . وقال : ” من علم الرمي ثم تركه فليس منا ” أو قال : ” قد عصى ” .
فليس من الدين ، وليس من الزهادة ، وليس من التقدم الروحي ، وليس من الصلاح والتقوى أن يكون المسلم جاهلاً ، وأن يكون المسلم عازلاً ضعيفاً ، وقد جاء في الحديث : ” المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير ” . ولكن القوي خير من المؤمن الضعيف .
أنا مسرور جداً أن في هذا البلد المسلم ، وفي هذا الشعب المسلم تقوم مثل هذه الجامعة التي تعنى بالعلوم التكنالوجية ، ولكن المهم يا إخواني أن نتعلم ذلك بنية صالحة ، أن تكونوا مخلصين في تعلمنا ، حتى يكون لنا أجر تعلم العلوم النافعة التي تنفع الناس في الدنيا والآخرة ، فالذي ينوي أن يتعلم هذا العلم ، ويدرس في هذه الجامعة ليخدم المسلمين ، ويخدم الإسلام ربما يكون أفضل من ذلك الذي يتعلم في جامعة دينية خالصة ، ولكن نيته أن يباري بعلمه العلماء والسفهاء ، ومن الأحاديث المشهورة : ” إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ؛ فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ، أو إلى امرأة ينكحها ، أو يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ” . وإن الإمام البخاري أمير المؤمنين في الحديث محمد بن إسماعيل افتتح كتابه بهذا الحديث ، فأول شيئ : النيَّة ، يعني : أن تكون نيتكم ألا تتعلموا هذه العلوم لتملؤوا بطونكم ، وتتهيأ لكم بها وسيلة المعاش ، أو تولوا وظيفة فقط ، هذا صحيح جائز مباح ، ربما يكون فيه الثواب ، ولكن انووا أنكم ستنفعون بهذه العلوم التكنالوجية المسلمين والنظام الإسلامي والمجتمع الإسلامي ، فالشيئ الأول والمهم : النية . كان المسلمون أساتذةً في جميع العلوم ، كانوا أساتذة العالم في علم الطبيعة ، وفي علوم الرياضيات ، وفي الكيمياء ، وكان منهم حكماء ، وفلاسفةٌ مثل الشيخ أبي علي ابن سينا ، وابن الهيثم ، هؤلاء كلهم كانوا أساتذة الغرب ، ومن الأندلس الإسلامية العربية التي يسمونها الآن أسبانيا ، من أسبانيا المسلمة العربية انتقلت العلوم والتيار العلمي والفكري إلى الغرب كله ، والمسلمون هم الذين قدموا للعالم علم الاستقراء كما اعترف به علماء الغرب ، كلُّهم يعترفون أن ” باكون Bacon ” الذي ينسب إليه أنّه هو الداعي إلى الاستقراء كان تلميذاً على الذين خرجوا من أسبانيا ، والذين درسوا في أسبانيا ، وعلم الاستقراء خلق هذا التيار العلمي ، فأقبل الناس على الاطلاع على الجزئيات وبالاستفراء تقدمت أوربا ، ووصلت إلى ما وصلت ، وقد اعترف بذلك خبراء التاريخ وخبراء العلم ، وقالوا : إنَّ أوربا إنما حدثت فيها ثورة عقلية علمية بعد ما أخذت علم الاستقراء من الأساتذة العرب ، فكان المسلمون الأساتذة ، وبقي العالم عالةً عليهم قروناً كثيرةً ، كان علماء الغرب عالةً على المسلمين يقتبسون منهم العلوم ويتلقون منهم التجارب والخبرات ، ولكن بعد ذلك حدث غير ذلك ، يعني : انقلب التيار، وأصبح المسلمون سرى فيهم الكسل ، ودب إليهم النوم ، ودبت إليهم الغفلة ، وصاروا ملوكاً مترفين ، وأغنياء وأمراء ، فانتقلت الإمامة في العلوم النافعة المفيدة من الشرق المسلم المؤمن بالله تبارك وتعالى إلى الغرب الملحد ، وهذا كان شؤماً في حق الإنسانية ، ولما تولّى الغرب الرئاسة في العلوم كان من واجب المسلمين أن يتجهوا إلى هذه العلوم ، فإنَّ الحكمة ضالة المؤمن ، حيث وجدها فهو أحقُ بها ، كما جاء في الحديث ، فالمسلمون أحق بهذه الحكمة ؛ لأن يستخدموها لسعادة الإنسانية ، ولصالح العالم كله ، ليس لصالح أوربا ، ولا لصالح المعسكر الشرقي والمعسكر العربي فقط .
فلما انتقلت الإمامة إلى الغرب كان من واجب المسلمين في البلاد الإسلامية المجاورة لأوربا أن يتعلموا من الغرب ما ينفعهم ويصبغوه بصبغة إسلامية ، فيخضعوه لصالح المسلمين ، ولغايات صالحة ، لا ليتنعموا . ويربحوا ، ويجلبوا أموالاً كثيرةً ، وكان لا بد أن تكون لهم شخصية مستقلة في مجال هذه العلوم كذلك ، فيجب أن يكون عندنا بارعون أصحاب اختصاص ، يجب أن يكون عندنا من يصنع القنبلة الذرية ، لأن هذا يعد من قبيل ( وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِن قُوَةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوّ اللَّهِ وَعَدُوّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ ، اللَّه يَعْلَمُهُمْ ) [ الأنفال : ٦٠ ] ، فيجب علينا أن نعد للأعداء ما يرهبون به ، ولا يجرؤوا علينا ، فأنا مسرور جداً بقيام مثل هذه الجامعات في العالم الإسلامي إذا كانت في باكستان ، إذا كانت في مصر ، إذا كانت في السعودية فعشر مرات أهلاً وسهلاً ، وإذا كانت في بلدنا المسلم هذا ، في ماليزيا فمرحباً ، وأنا مسرور كذلك ممن قد انتسبوا إلى هذه الجامعة ، وهم يأتون إلى الجامع أيضاً ، جمعوا بين الجامعة والجامع ، وقلما يوجد من يجمع بين الجامعة والجامع ، والذين يجمعون بين الجامعة والجامع هم الذين يعملون بقول الله تعالى : ( يَقُولُ ربنا آتنا في الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) [ البقرة : 201 ] فنعم هذا ، حينما دخلت هذا المسجد في صلاة المغرب وجدت هنالك أن أكثر المصلين من طلبة الجامعة ، فما أحسن إذا اجتمع الدين والدنيا معاً !
وأرجو أن يوجد هنا في هذه الجامعة التعاون للجامعة مع الجامع ، فأنا مسرور بهذه الرؤية ، وأرجو أن تكونوا بارعين فائقين حتى تنالوا ” جائزة نوبل ” وهذا يكون بشارةً للمؤمنين ، ويفرح المسلمون في أنحاء العالم على أن ينال المسلم الجائزة ، ولا نعرف في هذا إلا اسماً واحداً ، أو اثنين ، فيجب أن يناله عشرات من المسلمين في العلوم الرياضية ، في الطاقة الذرية ، وفي العلوم الكيمياوية ، وأنا أحثكم يا أبنائي ! يا تلاميذ الجامعة على أن تخترعوا شيئاً جديداً ، وأن تفتحوا منفذاً جديداً في العلوم ، فيكون لكم مركز عال ممتاز حتى يستحق بعض زملائكم أن ينالوا هذه الجائزة .
هنالك في العالم الإسلامي مؤلفون ، هنالك أدباء يعرف فضلهم العلماء الكبار في أوربا وأمريكا ، هنالك علماء الدين ، هنالك الفقهاء ، ولكن العباقرة المجتهدين في العلوم العصرية قليلون نادرون ، فأرجو أن تتخرجوا من هذه الجامعة حتى تشرفوا العالم الإسلامي والمسلمين في شبه القارة الهندية ، إذا سمع غير المسلمين في بلادنا مثلاً أنَّ شاباً مسلماً في ماليزيا نال جائزة نوبل ، فهم ينظرون إلى المسلمين في الهند باحترام وتقدير ، لأنَّه فرد من أفراد هذه الأمة ، فلا تستهينوا يقيمتكم ولا بنيتكم ، فإنَّ العبرة بالنية ، والإخلاص ، فإذا كنتم مخلصين في دراستكم لهذه العلوم تنالون من الله تبارك وتعالى في هذه الدنيا وفي الآخرة من الأجر ما يناله كثير من العلماء والزهاد .
أكتفي بهذا ، وأدعو الله لكم بالنجاح ، وأن يشرف بكم الإسلام ، وأن يبيض وجه المسلمين ، وهم قد فقدوا الشيئ الكثير مما كانوا يتمتعون به من شرف ومكانة وعزَّةٍ ، فالله على كل شيئ قديرٌ ، والنية الخالصة مع بذل المجهودات سر النجاح ، قال الله تعالى : ( وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسانِ إِلا مَا سَعَى . وَأَنَّ سَعيَه سَوْفَ يُرَى . ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى ) [ النجم : 39 – 41 ] يعني : ثلاثة أشياء ليس للإنسان إلا ما سعى ، فالموئل الأول هو السعي ، ثم لم يقل إن سعيه سيرى ، بل قال : سوف ، وسوف للتأكيد ، فإذا لم يكن النجاح في وقت قريب فلا تيأسوا ، ثم قال : إنه سيجزيهم الجزاء الأوفى ، ولم يقل الجزاء فقط بل الجزاء الأوفى ، فتدبروا .
أكرمنا الله بالتوفيق والإخلاص والسداد ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .