الغرب في ضوء التحليل النفسي
ديسمبر 11, 2023حقوق النبي صلى اللّه عليه و سلم على أمته
يناير 14, 2024الدعوة الإسلامية :
إنّه عظيم … حياة النبي صلى الله عليه وسلم الاجتماعيّة
الأستاذ محمد شاهنشاه ملا *
إن المجتمع الذي نحن نراه في حياة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم ليس مجرد مجتمع يعيش تحت حرارة الشمس وبرودته ، بل هو مثل أعلى للإنسانية جمعاء ، ومدرسة فريدة تخرج منها آلاف من العظماء من العظماء والعباقر تربّوا بتربية النبي صلى الله عليه وسلم وأشعلوا بأنوارهم زوايا العالم بالعلم والعرفان والخلق والإحسان ، فإن الجوّ الذي صنعه الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كجوّ مدرستنا ، بل تربى تحته جيل جديد من الأخلاق الحسنة والنظام المرتّب مركّباً من الطبيعة الإلهية التي ركّب الله عليها الناس ، ففي هذا المجال نطل على حياته الاجتماعية على وجه أشمل ، واحداً تلو الآخر ، لما أن حياته الكاملة أمثولة نيرة تتجلى فيها ملامح جميع أنواع الخير والرشاد للأمة .
(1) المساواة والعدل في سيرة النبي الاجتماعية :
إن النبي صلى الله عليه وسلم راعى مراعاةً تامةً في المساواة والعدل بين الناس ، وطبّقهما في الناس عمليّاً حيث قام بلال بن رباح الأسود الرقيق مع أشراف قريش صفّاً صفاً ، الكل يركع ويسجد لله معاً ، فلا فرق بين العرب والعجم ، وبين الأبيض والأسود إلا بالتقوى ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع : ” أيها الناس ! إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، كلكم لآدم وآدم من تراب ، وليس لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ، ولا أحمر على أبيض ولا أبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى ” [1] .
فالنبي صلى الله عليه وسلم سوّى بين الناس في كل جنسه ، وأخبر أصحابه بأنه ليس أحد منكم أشرف على الآخر إلا بالتقوى والعمل الصالح حيث يقول : ” إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ” [2] ، فلو دققنا النظر في مدرسة الرسول وجدنا أن أصحابه لم يميّز أيضاً بين العبد والأشرف ، كما كانوا في الجاهلية ، والأمثلة على هذا كثير كما نرى أن أسامة بن زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوّج درة بنت عدي بنت قيس بنت حذافة ، فولدت له محمداً وهنداً ، وتزوج فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس ، حيث يقول ابن مسعود رضي الله عنه لأخته : أنشدك بالله أن تتزوجي مسلماً ، وإن كان أحمر روميّاً ، أو أسود حبشيّاً [3] ، بالمفهوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرّق بين أصحابه المقامات الاجتماعية العليا بمفاهيم الجاهلية وبين أصحاب المقامات الاجتماعية الدنيا لأسباب قبلية أو عنصرية أو لونية أو ثراء أو فقر ، بل أعلن بينهم بكل صراحة ” المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره [4] .
(2) الرفق والرحمة للعالمين جمعاء :
إن الرفق والرحمة وصفان مختلطان بدمه ولحمه وخَلقه ، فكيف بخُلقه ، أرسل الله تبارك وتعالى محمداً رحمةً للعالمين ، فقال سبحانه وتعالى : ( وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ، نعم ، إنه كان رحمةً بالإنسان والحيوان والجمادات ، يصفه ربّه فيقول : ( وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ، فالرحمة صفة لازمة له ، فهي عنوانه ، وهي سمته التي يعرف بها ، فقلوب الناس تهواه وتغشاه وتحبّه لأنّه رحمة بعث بالرحمة والعطف والحنان ، وبعث بالرفق واللين فما أرحمه من نبي !
والله ليس هناك أحد يرحم الناس كما يرحمهم محمد صلى الله عليه وسلّم ، ولا غرابة ، فهو أبو الرحماء ، وهو من أرسل رحمةً للعالمين ، إنّ رحمة النبي صلى الله عليه وسلم تعددت في عدة أمور ومع أصناف الناس فكما رأينا رحمته بالعجوز ، فهذا أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه يأتي بأبيه – أبي قحافة – إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليبايعه وقد كبر سنّه فقال صلى الله عليه وسلم : ” هلا تركت الشيخ في بيته ، حتى أكون أنا آتيه فيه ” [5] .
يا الله ! ما أروعها من رحمة ، وما أرقّه من قلب رحيم ، لم يقل أنا رسول فهو أحقّ أن يأتي إليّ ، حاشاه أن يقول ذلك صلى الله عليه وسلّم ، وهو من بعث بالرحمة والتواضع . نعم ، رحمته صلى الله عليه وسلم نالت الكبير والصغير والرجل والمرأة ، فلم تترك أحداً إلا نالته ، يأتي إليه طفل صغير فيقبله ويرق عليه ويرحمه ، فيقول أحد الحاضرين من الأعراب : تقبّل الأطفال يا رسول الله ! والله إنّ لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً ، فيقول عليه الصلاة والسلام : ” أو أملك إن نزع الله من قلبك الرحمة ” [6] .
ولا تقتصر رحمته مع الأطفال أن يقبلهم فحسب ، بل الأمر أبلغ من ذلك فهو يحملهم على ظهره ويترك أحدهم يلعب بخاتم النبوّة على ظهره وهو يمازحهم فيقول للصغير : يا عُمير ! ما فعل النغير [7] ، وهو أيضاً يحب أن يتطول في الصلاة فيستعجل فيها رحمة بالطفل الذى يبكي لعلّه أن يكون جائعاً أو مريضاً ورحمة بقلب أمّها الحنون عندما تسمع ولدها يبكي فتحن عليها فيرق قلب النبي صلى الله عليه وسلّم ويرحم حالهما جميعاً فيستعجل في الصلاة .
والله لو بحث الناس في قلوب البشر جميعاً منذ أن خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة ما وجدوا أرحم ولا أشفق ولا أرق من قلب محمد صلى الله عليه وسلم .
فإن المجتمع الذي أقامه الرسول حقاً كان مجتمعاً متأنياً متآلفاً فيما بينهم ، وكيف لا يكون ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بنفسه رحمةً للعالمين ، فهي تجاوزت حدود البشرية جمعاء لتشمل جميع المخلوقات .
(3) العلم والتعليم في حياة النبي الاجتماعية :
لا يخفى على أي شخص فضل العلم وأهله في الإسلام ، لما أن هذا الدين قد بسمل بـ ” اقرأ ” ، بلغ الأمر إلى درجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” وإن العلماء ورثة الأنبياء ” ، فإذا قلبنا صفحات السيرة النبوية وجدنا أنه لم يحث أحد أصحابه على العلم والتعليم كما أعتق أسارى بدر على فداء تعليم عشرة من أولاد الأنصار القراءة والكتابة ، وكما يروي الشيخان عن مالك بن حويرث يقول : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شبَبَة متقاربون ، فأقمنا عنده عشرين ليلةً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً ، فظن أنا قد اشتقنا أهلنا ، فسألَنَا عمن تركنا من أهلنا ، فأخبرناه ، فقال : ارجعوا إلى أهليكم ، فأقيموا فيهم ، وعلِّموهم ومروهم ، وصلوا صلاة كذا في حين كذا ، وصلوا كذا في حين كذا ، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ، وليؤمكم أكبركم [8] ، وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل المعلمين إلى شتى أنحاء الجزيرة العربية ، كما أرسل مصعب بن عمير وهو بمكة بعد بيعة العقبة الأولى فسمي ” مقري المدينة ” [9] . نعم ، كان المعلمين حملة رسالته النبوية ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخرج الإنسانية من جهالة الجهلاء والغباوة والعمياء باستخدام العلم والعرفان ، حتى أشعل الرسول فيهم نوعاً من القبس العلمي الّذي نوّروا به الكوفة والبصرة وبغداد والأندلس وغيرها من المراكز العلميّة الّتي لا يزال التاريخ يسجّل ذكرياتها الناصعة مهما تناسينا .
(4) المحافظة على الحقوق في السيرة النبوية :
إن مجال الحقوق والمحافظة عليها واسع في السيرة النبوية ، وإن النبي صلى الله عليه وسلم شمل جميع الأفراد والجماعات البشرية على صف واحد متساو ، فإنه أيضاً ما قام بمنع حقوق غير المسلمين أيضاً أبداً ، بل كان أميناً صدوقاً لسائر من واجهه ، حيث قام مع غير المسلمين أيضاً في مشاكلهم ومصايبهم ، وكيف لا يقوم الرسول لهم لأن الله تعالى يقول : ( وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) [ سورة العنكبوت : 46 ] ، كذلك تتجلى صورة وسعة صدره الفياض عندما قام الرسول لجنازة ، قيل له : إنها جنازة يهودي ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم بقلب ملؤه الحب والمودة والرحمة للعالمين : ” أليست نفساً ” [10] .
وإنه صلى الله عليه وسلم راعى مراعاةً تامةً في حقوق أصحابه وأهله وكل من يتعلقون به ، فإنه منح لهم حرية الرأي ليعبروا عن مشاعرهم وآرائهم ، وقام باحترام الكبير والرفق على الصغير ، ما ترك جائعاً وهو يأكل ، بل واظب على صلة الرحم والصدقات للفقراء والمساكين ، فإذا التفتنا إلى صفحات سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بكل دقة وجدنا عدداً من الأمثلة الرائعة لهذا الخلق التام النادر .
وأما احترامه المتواضع للكبار وحنانه الفياض للصغار ، فالتاريخ يتألق بالعديد من القصص كما يقول واثلة الكناني رضي الله عنه : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لحماً بالجعرانة ، وأنا يومئذ غلام أحمل عظم الجزور إذ أقبلت امرأة دنت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبسط لها رداءه فجلست عليه فقلت : من هي ؟ فقالوا : هذه أمه التي أرضعته .
أما الكرم والجود والسخاء والسماحة فقد خلقت وترقت بعد نشأة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه صلى الله عليه وسلم فاق في كله كل كرماء العرب ، ولو اشتهروا به حيث يصفه جابر رضي الله عنه يقول : ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيئ فقال : لا [11] ، وكذلك يقول ابن عباس رضي الله عنه : كان عليه الصلاة والسلام أجود الناس بالخير وأجود ما يكون في رمضان .
إن النبي صلى الله عليه وسلم مثل نفسه في درجة الأفضل في سائر مراحل حياته ، فكان أفضل زوج وأب وجدّ ومربّ ومعلم وقائد وكل ما يليق بأكمل الكاملين ، فإنه لم يمنع بإعطاء أزواجه وأهله حقوقهم مع أنه كان قائد الدولة ، ومبلّغاً للرسالة ومعلماً للناس ، فالرسول صلى الله عليه وسلم أعطى أزواجهن حقوقهن الكاملة كما تقول عائشة رضي الله عنها : ” ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأةً له قط ولا خادماً ” [12] ، نعم ، إنما كان عليه الصلاة والسلام زوجاً حنوناً رحيماً يعطف على أزواجه ويرحمهن ويبتسم لهن ويعلمهن معاملةً حسنةً ، فإنه كان متزوّجاً تسعاً من النساء إلا أنه لم يمنعه كثرتهن أن يعطي كل واحدة منهن حقها ، وكذلك يظهر حبه وخلقه الكريم في حق الخادمين في كثير من المراحل ، منها ما يروي أنس بن مالك رضي الله عنه يقول : ” خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ، والله ما قال لي أبي أفّ قط ، ولا قال لي لشيئ لما فعلت كذا ؟ وهلا فعلت كذا ” [13] .
(5) حياة النبي صلى الله عليه وسلم في البيت :
إن البيت ونموذجه هو أصل ما ينبني عليه المجتمع ، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان مختلفاً في نماذج بيته من عادات الحكام والملوك والأمراء من التوسع في المال والمشارب ، بل اختار لنفسه أن يعيش في تقشف ولم يجتمع عند النبي صلى الله عليه وسلم غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلا على الضفيف [14] ، تقول عائشة رضي الله عنها واصفةً حالته صلى الله عليه وسلم المعيشية : ” ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ” [15] . هذه هي حياته المعيشية فقد عاش الرسول في مثل هذا الفقر والجوع ليقتدي به المسلمون ويقنعوا بكل ما يمنحهم الله تعالى من النعم العظيمة الغفيرة .
أما إن أثاثه وفراشه وملابسه ، فلم يكن بيته مليئاً بكل هذه الأشياء ، من أغلى الأقمشة وكثرة الملابس والأثاث ، إنما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه أدَمَاَ حشوُهُ ” [16] ، ودخل عمر ذات يوم على النبي صلى الله عليه وسلم ووجده على حصير ما بينه وبينه شيئ ، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف ، وعند رجليه قَرُطاً مَضبوراً ، وعند رأسه أَهَبٌ مُعَلَّقة ، ورأى أثر الحصير في جنبه فبكى ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك ؟ فقال عمر : يا رسول الله ! إن كسرى وقصير فيما هما فيه ، وأنت رسول الله ، فقال : ” أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ ” لم تكن زخارف الدنيا ومتاعها وأثاثها الفاني غايته ، فقد اكتفى بالقليل منها ، وإنما كانت الآخرة هي همه وغايته وهي شغله الشاغل ، هذه هي حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا حاله إنه عاش بين أهله في غاية من التقشف والتواضع اللامثيل على وجه التاريخ .
(6) الشورى : فصل نادر في السيرة النبوية :
إن للشورى أهميةً هامةً في المجتمع ، وإن النبي صلى الله عليه وسلم شاور أصحابه وأهله وأصدقائه في سائر الأمور الهامة ، كما شاور زوجته أم سلمة رضي الله عنها يوم الحديبية [17] ، وكذلك نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعائشة رضي الله عنها في خبر تخيير الرسول صلى الله عليه وسلم زوجاته بين متاع الدنيا وبين العيش مع الرسول في شظف من العيش ، فقال لعائشة رضي الله عنها : ” إني ذاكر لك أمراً ، فلا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تشاوري أبويك ” ، فاخترن رضي الله عنهن العيش مع الرسول [18] .
(7) حياة النبي صلى الله عليه في العشرة :
كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس عشرةً وأعلاهم أسوةً وأوسعهم صدراً وأصدقهم لهجةً ، يقول الحسن بن علي رضي الله عنهما قال : سألت أبي علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في جلسائه فقال : ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البشر ، سهل الخلق ، ليّن الجانب ، ليس بفظ ، ولا غليظ ، ولا صخّاب ، ولا فحّاش ، ولا عيّاب ، ولا مدّاح ، يتغافل عما لا يشتهي ، ولا يؤيس منه راجيه ، ولا يخيب فيه . قد ترك نفسه من ثلاث : المراء ، والإكثار ، وما لا يعنيه . وترك الناس من ثلاث : كان لا يذم أحداً ولا يعيبه ، ولا يطلب عورته ، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه . وإذا تكلم أطرق جلساؤه ، كأنما على رؤوسهم الطير ، فإذا سكت تكلموا ، لا يتنازعون عنده الحديث ، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ . حديثهم عنده حديث أولهم ، يضحك مما يضحكون ، ويتعجب مما يتعجبون منه . ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته ، حتى إن كان أصحابه ليستجلبونهم ، ويقول : إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فارفدوه ، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجور ، فيقطعه بنهي أو قيام ” [19] . نعم ، كيف لا يكون أعلى في خلقه يا إخواني ! لأنه حمل على عاتقه رسالة النبوة يعلمه الله قائلاً : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ) [ سورة آل عمران : 159 ] .
(8) القدوة الأعلى للأخلاق الحسنة :
مما لا ينزع فيه اثنان أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان معلماً كبيراً لأصحابه في جميع شعوب حياته الإنسانيّة وسيما في الأخلاقيات ، حيث قال الله تعالى في كلامه بأنّه أكمل الكاملين وأفضل الفاضلين وأزيد الناس حسناً وعلماً وحكماً وفضلاً وخلقاً ، وكان خلقه صلى الله عليه وسلم على وجه كامل وتامّ وهو أفضل الخلائق أجمعين . حيث تقول عائشة رضى الله عنها حين سئلت عن خلق النبي صلي الله عليه وسلم قالت : ” كان خلقه القرآن ” [20] أي كان عليه الصلاة والسلام متخلقاً بأخلاق القرآن ، وقد مدحه الله تعالى وأثنى عليه حيث قال : ( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ) يعني كان من أخلاقه لين ورفق مع الأصدقاء حتى مع الأعداء .
هناك كثير من القصص الوافرة الوارفة يتجلى فيها رفقه ولينه ، لمّا كان عليه الصلاة والسلام في طرق الطائف ، وكان ذلك اليوم أشد اليوم من أيامه ، رماه الأطفال الشرار بالأحجار والمدر ، حتى اختضبت نعلاه بالدماء وشفتاه مضرجتان بها ، والحال أنه هو سيد الأولين والآخرين وأفضل خلق الله أجمعين ، فجاء جبريل عليه السلام وقال له : ” إذا قلت لأطبقنّ هذا البلد بين الجبلين فقال ” لا ” وقال : إني أحبّ أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً [21] ، نفهم أنّ أخلاقه السنية والفائفة واللامثاليّة كانت في ذاته الشريف نفسه .
إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أكثر في بيان فضائل حسن الخلق إلى حد أن لم تقم أمّة ولم يقم قوم على الأخلاق الحسنة والنظام المرتب مثل الإسلام . فالإسلام قام بشمول جميع نواحي حياة الإنسان في تزكيتها وتربيتها وتحليتها بالصدق والعفّة والحلم والصبر والوفاء لأهل الأرض جميعاً ، يقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : أكرم جارك ولو كان كافراً . فما تولّد إلا وقد أعلن أنّ الكذب لطخة سوداء على جبين الزمن ، وكذلك كل الأخلاق الحسنة ، ولكن لم تنشأ أمّة أفلحت في تطبيق كل هذه الأخلاق الحميدة إلا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أطبقها في مدرسته في تلك القرية الصغيرة الّتي تفوح شذاها العلميّة وعذبات الحق والهدى إلى اليوم .
إنّ الإسلام راعى مراعاةً تامّةً في سائر الأمور حتى نهى عن تناجي الإثنين دون الثالث ، يقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم : ” إذا كانوا ثلاثةً فلا يتناجى اثنان دون الثالث ” [22] ، وبلغ الأمر إلى أن نهى النبيّ هذه الأمّة أن تصبر البهائم . بالطبع إنّه كان في خلقه قدوةً لا مثيل لها على وجه التاريخ . تخرّج الصحابة من مدرسة الرسول وما رأى الزمن أنبل منهم ولا أفقه ولا أعلم ولا أحسن الناس خلقاً ولا أشرحهم صدراً ، وإنّ هذه الصورة تتجلّى في عدّة مواضع كما تتجلّى واضحةً جليّةً فيما بين الصحابة حينما هاجر المسلمون من مكّة إلى المدينة كان المتوقّع أن تحدث هناك عدة من المشكلات من الغربة ومفارقة الأهل والمشكلات الاقتصادية والاجتماعيّة ، ولكن قام الأنصار بكل ما بوسعهم من النصر والنفقة والتفاني لإخوانهم من مكة ، حيث إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حينما قام بتشريع المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرة تفانى المسلمون من الأنصار على المهاجرين وأعطاهم الحقّ في التوارث وقسّم أموالهم إلى قسمين فأتحف كلّ منهم أخاه من الأنصار هكذا ، ومن الموقف المشرق الذي سجّله التاريخ ولا يزال يسجّله هو ما قدّم سعد بن الربيع لأخيه عبد الرحمن بن عوف من المهاجرين ، حيث قال سعد رضي الله عنه : ” إنّي أكثر الأنصار مالاً ، فأقسم مالي نصفين ، ولي امرأتان ، فانظر أعجبهما إليك فسمّها لي أطلّقها ، فإذا انتقضت عدّتها فتزوّجها ” [23] ، هل من الممكن أن يعاد التاريخ بمثل هذا من التفاني للأخ في الدين والأمر أكثر عجباً أنّهم ما نسوا كلّ ما مرّ عليهم من الأيّام المظلمة أيّام العصبيّة الوحشيّة القاسية .
الختام :
هذا غيض من فيض وقطرة من محيط ، فإذا قمنا بتصفح صفحات السيرة النبوية العطرة العذبة وجدنا أمثلةً رائعةً ينبهر بها العالم إلى اليوم ويعجز عن إتيان المثيل لهذه الصفحة النيرة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكمل العاملين وإلى الغد اللامعلوم يكون ، فإنه قد أخرج الإسلام من الظلمة الحالكة وقسوة القساة وغلظة الطغاة الجبّارين ، فأعطى النساء كرامتهنّ ، والأولاد آباءهم المخلصين ، والآباء أولادهم الصالحين ، فعله النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بكلّ سهولة ، حل كلّ المشكلات والمعضلات كما هو يستل الشعر من اللبن . أجل ، إنّه كان أكبر قائد وأفطن رجل وأذكى مرب وأعظم مفخرة للإنسانيّة جمعاء لرحمته البسيطة مع الصغار والكبار والشيوخ والأيتام والحيوان والجمادات كلّها ، هذا الزمن يتقادم جيلاً بعد جيل يشبّ ويشيخ ، لكن هدي النبيّ وسننه هي الخيار الواحد لسائر المشاكل الّتي يعانيها العالم اليوم ، ولا غرو فيما قاله العلامة ساديو الفرانسي : ” إنّه عظيم في دينه . . . عظيم في أخلاقه . . . عظيم في صفاته ” .
* جامعة دار الهدى الإسلامية ، كيرالا ( الهند ) .
[1] صحيح البخاري ( 6403 ) ، مسلم ( 1218 ) ، أحمد ( 23489 ) .
[2] رواه مسلم ( 1480 ) .
[3] رواه مسلم ( 934 ) ، أبو داؤد ( 5116 ) .
[4] رواه مسلم ( 2564 ) .
[5] أخرجه أحمد ( 26956 ) .
[6] رواه البخاري .
[7] رواه البخاري ( 4971 ) ، مسلم ( 2150 ) .
[8] رواه البخاري ( 6008 ) ، مسلم ( 674 ) .
[9] رواه أئمة السيرة وإسناده في دلائل النبوة ، البيهقي ( 2/438 ) .
[10] رواه البخاري ( 1312 ) ، رواه مسلم ( 961 ) .
[11] حديث متفق عليه ( صحيح ) .
[12] مسند أحمد ، ج 53 ، ص 358 .
[13] رواه مسلم ( 2309 ) .
[14] رواه الترمذي ، كتاب الشمائل .
[15] رواه البخاري .
[16] رواه مسلم .
[17] رواه البخاري ( 2162 ) .
[18] رواه البخاري ( الفتح : 4686 ) .
[19] رواه الترمذي ، كتاب الشمائل ( 221 ) .
[20] رواه مسلم .
[21] رواه مسلم .
[22] رواه أحمد ومسلم .
[23] رواه البخاري ( 3780 ) .