الحياة آية كبرى على البعث
يوليو 28, 2023بيان الحق والباطل في حوارات القرآن الكريم نموذجاً
يوليو 28, 2023الدعوة الإسلامية :
إصلاح ذات البين : فريضة دينية
الأستاذ طارق أسعد بن أسعد الأعظمي *
لقد زين الله عز وجل هذه الأرض بشتى المخلوقات ، ترى أعيننا الاختلاف ، والتنوع ، والتفاوت ، والتباين في هذا الكون ، ويتعدد هذا التفاوت في جميع شؤون الحياة بأوجه مختلفة من ألوان ، وأموال ، وألسن ، وأقوام . ولا جرم أن هذا التباين يزيد الكون حسناً وبهاءً ورونقاً ، ويمنحه جمالاً وغرةً وبهجةً ، تخيلْ برهةً أن هذا الكون يمشي على غرارة واحدة ، وليس هناك بون ولا بين في الناس لا في ألوانهم ولا في أموالهم ولا في لهجاتهم ، وكلهم سواء وليس بينهم فرق يسير ولا كبير ، فهل كانت الدنيا من الجمال والبهاء مثل هذا الذي نحن فيه ؟
أيها الــمشتكي وما بك داء ؟
كُن جميلاً تر الوجود جميلاً
فمن هنا تبين أن وجود الخلاف ، والتعدد والتباين أمر فطري مجبول عليه الدنيا ، وأن الأمر سيكون على هذا المنوال إلى أن تقوم الساعة ، وقد أقر الإسلام بهذا ، وجعله من السنن الكونية التى فطر الله عليها هذه الأرض ، وأوضح أن الناس لا يزالون يختلفون بما في طبائعهم من التفاوت والتخالف ، وأنه لا توجد بيئة إلا وقد يوجد بين أبنائها خصومات ومنازعات ، حتى قيل : إنه ليس هناك رجلان في بقعة الأرض يتفقان على جميع نواحي الحياة مائة في المائة مثل البصمات ، إذ لا تتوافق بصمة بصمة أخرى ولا علامات إصبع غيرها ، يقول الدكتور محمد بن عبد العزيز العواجي :
” إن الناس في الحياة على اختلاف ألوانهم وتباين لغاتهم وتباعد أقطارهم – بعضها من بعض – لم يعلم عن أحد منهم في وسط المعمورة ولا في أرجائها : أنه لم يحدث بينهم خصومات ومنازعات ، بل إن الطبيعة الغريزية لتحمل كل إنسان على محبة التغلب والانتصار على منازعه أو خصمه ، فإن كانت صالحةً فالمرء يريد استيفاء حقه ، وإن كانت طالحةً فيريد المرء التغلب والانتصار على الخصم بأي طريقة ، فكثيراً ما تقع الخصومات والمنازعات بين فرد وآخر ، ولذا عُني الإسلام بهذا الشأن فأمر بالصلح ورغب فيه ” [1] .
يقول الله عز وجل عن هذا الأمر : ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) [ هود : 118 – 119 ] .
يقول ابن كثير : ” ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم ” [2] .
لكن يجب ” على كل من المختفين أن يحترم كل واحد منهما الآخر ، ولا يرمي أحدهم الآخر بالبذاءة والفحش والفسق ” [3] .
فبعد ما علمنا وجود هذا الاختلاف والتباين في أوساطنا بالضرورة علينا أن نتعرف كيف نتعامل عند حدوث هذه المشكلة وما الواجب علينا إذا وقع الخلاف بيننا ، وما هي الوسائل والطرق لمواجهة الاختلاف والتباين ؟
إن الإسلام شرع الإصلاح ما فسد من العلاقات ، وترقيع ما ثقب من خيط القرابة ، وفتق ما رتق من صلات المودة ، ورأب ما تصدع من حال الوصل والتحابب والتآلف ، يقول سبحانه وتعالى : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ) [ الأنفال : 1 ] .
وقال عز من قائل : ( لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) [ النساء : 114 ] .
قال الشيخ رشيد رضا : ” أصلحوا نفس ما بينكم ، وهي الحال والصلة التي بينكم تربط بعضكم ببعض ، وهي رابطة الإسلام ، وإصلاحها يكون بالوفاق والتعاون والمواساة وترك الأثرة والتفرق ، – إلى أن قال – وأمرنا في الكتاب والسنة بإصلاح ذات البين ، فهو واجب شرعاً تتوقف عليه قوة الأمة وعزتها ومنعتها وتحفظ به وحدتها ” [4] .
فإصلاح ذات البين واجب شرعي حيث يتوجب على المسلم إذا وجد طائفتين اختلفتا أو شقيقين تنازعا أو جارين تخاصما أن يقوم بالإصلاح بينهما ، قال تعالى : ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) [ الحجرات : 9 ] .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ” فإن المسلمين لما اقتتلوا كان الواجب الإصلاح بينهم كما أمر الله تعالى فلما لم يعمل بذلك صارت فتنة وجاهلية ” [5] .
ويقول القرطبي : ” والأمر بالإصلاح مخاطب به جميع الناس من ذكر وأنثى ، حر أو عبد ” [6] .
فليس شأن المسلم إذا رأى طائفتين أو رجلين متخاصمين أن يقف ساكتاً صامتاً ، ويتمتع ويتلذذ بمشاجرتهم ، أو أن يوقد نار البغضاء بينهم ، ويشعل قبس العداوة والمعاداة فيما بينهم ، لذلك نجد حشداً من النصوص التي تمنع وتحرم الأمور المؤدية إلى الفساد في المجتمع الإسلامي مثل الكذب ، والنميمة ، والغيبة ، والزور ، والبهتان والافتراء والهمز واللمز والسخرية ، والنميمة ، والقذف ، والشتم والسباب والمراء ، والفجور والجدال ، وعلى جانب آخر تحث الشريعة المطهرة على مكارم الأخلاق التي تحقق وحدة الأمة وتقوي علاقات الأفراد وتؤزر روابط الأشخاص كي يكونوا جسداً واحداً ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، ولا تتحقق هذه العضوية الجسدية إلا بعد ما يقوم المسلمون بقلع أشجار المشاجرة والمخاصمة ، وبإيتاء فريضة إصلاح ذات البين ، قال تعالى : ( وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ) [ الأعراف : 85 ] .
فعن عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت قال : كنت جالساً مع محمّد ابن كعب القرظيّ ، فأتاه رجل فقال له القوم : أين كنت ؟ فقال : أصلحت بين قوم ، فقال محمّد بن كعب : أصبت . لك مثل أجر المجاهدين ، ثمّ قرأ ( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ ) [7] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ ، قَالُوا : بَلَى ، قَالَ : صَلاَحُ ذَاتِ البَيْنِ ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ [8] .
” ولا يخفى أن هذا ونحوه مخرّج مخرج الترغيب ، وليس المراد ظاهره إذ لا شك أن الصيام المفروض والصلاة المفروضة والصدقة كذلك أفضل من الإصلاح اللهم إلا أن يكون إصلاح يترتب على عدمه شر عظيم وفساد بين الناس كبير ” [9] .
وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بهذه المذكورات ( الصلاة والصيام والصدقة ) النوافل دون الفرائض . قال القاري : ” والله أعلم بالمراد ، إذ قد يتصور أن يكون الإصلاح في فساد يتفرع عليه سفك الدماء ونهب الأموال وهتك الحرم أفضل من فرائض هذه العبادات القاصرة ، مع إمكان قضائها على فرض تركها ، فهي من حقوق الله التي هي أهون عنده سبحانه من حقوق العباد ” [10] .
ناهيك عن فضل إصلاح ذات البين وبيان أهميته أن الكذب الذي من أكبر الكبائر فقد أباحه الإسلام على هذا الموضع إذا احتيج لإصلاح ذات البين ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ ، وَيَقُولُ خَيْراً وَيَنْمِي خَيْراً ” ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْئ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلا فِي ثَلاثٍ : الْحَرْبُ ، وَالإِصْلاحُ بَيْنَ النَّاسِ ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا [11] .
يقول ابن حزم : ” وهذا يدل على وجوب الإصلاح بين الناس لأن ترك الكذب واجب ، ولا يسقط الواجب إلا بواجب ” [12] .
ثم إن الإسلام أكد أنه إذا فسدت العلاقات الزوجية وحدث بينهما خلاف ضرورة الإصلاح بين الزوجين ويزود المسلمين بتوجيهات قيمة ونصائح مفيدة لتوثيق العلاقة وتثبيت المودة والمحبة ، قال تعالى : ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ) [ النساء : 35 ] .
” وإن خفتم الشقاق بين الزوجين والمباعدة والمجانبة حتى يكون كل منهما في شق ( فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ) أي : رجلين مكلفين مسلمين عدلين عاقلين يعرفان ما بين الزوجين ، ويعرفان الجمع والتفريق ” [13] .
” فواجب الحكمين أن ينظرا في أمر الزوجين نظراً منبعثاً عن نية الإصلاح ، فإن تيسر الإصلاح فذلك وإلا صارا إلى التفريق ، وقد وعدهما الله بأن يوفق بينهما إذا نويا الإصلاح ، ومعنى التوفيق بينهما إرشادهما إلى مصادفة الحق والواقع ، فإن الاتفاق اطمأن لهما في حكمهما بخلاف الاختلاف ” [14] .
وقال تعالى : ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) [ النساء : 128 ] .
” وقد دلت الآية على شدة الترغيب في هذا الصلح بمؤكدات ثلاثة : وهي المصدر المؤكد في قوله : صلحا ، والإظهار في مقام الإضمار في قوله : والصلح خير ، والإخبار عنه بالمصدر أو بالصفة المشبهة فإنها تدل على فعل سجية ” [15] .
والعجب كل العجب أننا نشاهد في واقعنا أنه إذا حصل شقاق أو خلاف بين جماعتين ، أو شقيقين ، أو زوجين يتربص بهما بعض الناس الدوائر ، أو يتمتع ويتلذذ بمشاجرتهما ومخاصمتهما ، ويتسلى ويتلعب باختلافهم إضافةً على أن ثمة أناساً لا يزالون يبحثون عن مثل هذه المواقف ويتربصون بها ، فإذا وجدوا فرصةً يستغلونها ويغتنمونها ولم يلبثوا أن يفتشوا خلل الرماد وميض جمر ، ثم ينفخون فيه حتى يكون له اضطرام والتهاب ، وهذا يسفر عن تشتيت العلاقات وتفريق الشمل وإزالة المودة والرحمة ، وغرس أشجار العداوة والبغضاء ، وتوتر الصلات . ولا غرو أن هذا فعل شنيع وعمل قبيح لا يستحسنه أي فرد ، والشريعة المطهرة قد توعدت هؤلاء الأجناس . فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم .
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ .
* مئو ، أترابراديش – الهند .
[1] الإصلاح بين المسلمين في القرآن الكريم : دراسة موضوعية للدكتور محمد بن عبد العزيز العواجي ، ص 53 .
[2] تفسير القرآن العظيم لابن كثير ، 4/361 .
[3] الإصلاح بين المسلمين في القرآن الكريم ، ص 180 .
[4] تفسير المنار ، رشيد رضا ، 9/542 .
[5] مجموع الفتاوى ، 17 ، ابن تيمية ، /311 .
[6] الجامع لإحكام القرآن ، القرطبي ، 14/181 .
[7] إعلام الموقعين ، ابن القيم ، 2/685 .
[8] أخرجه الترمذي ، 2509 ، صحيح الترغيب والترهيب ، 2695 .
[9] روح المعاني ، الآلوسي ، 3/140 .
[10] مرقاة المفاتيح ، القاري ، 8/3153 .
[11] أخرجه مسلم ، 2605 .
[12] إحياء علوم الدين ، الغزالي ، 2/199 .
[13] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ، السعدي ، ص 177 .
[14] التحرير والتنوير ، ابن عاشور ، 5/47 .
[15] التحرير والتنوير ، 5/217 .