أعتقونا لوجه الله

أعمال المؤمنين والكافرين وعاقبتهم في الآخرة
نوفمبر 22, 2024
قضايا مستجدة حول نفقة المطلقة ( الحلقة الثانية )
نوفمبر 22, 2024
أعمال المؤمنين والكافرين وعاقبتهم في الآخرة
نوفمبر 22, 2024
قضايا مستجدة حول نفقة المطلقة ( الحلقة الثانية )
نوفمبر 22, 2024

 

أعتقونا لوجه الله

الدكتور أشرف شعبان أبو أحمد *

تعريف الاستعباد وطرقه :

بدايةً فإن تجارة الرقيق أو العبد كانت متأصلةً في الشعوب القديمة ، وقد سبقت السجلات التاريخية المكتوبة ، فقد كانت موجودةً في العديد من الثقافات ، كانت سائدةً في روما أيام الإمبراطورية  الرومانية ، وقامت على أكتافهم بنايات الحضارات الكبرى ، وقد مارسها الأوربيون ، كانوا يُرسلون الأفارقة قسراً ليفلحوا الأراضي الأمريكية ، كما مارس البرتغاليون النخاسة ، ومارستها أسبانيا ، كما دخلت إنجلترا حلبة تجارة العبيد ، وتلتها البرتغال وفرنسا والدنمارك ، كما مارسها العرب من قبل ظهور الإسلام ، وكانت الدنمارك أول دولة تلغي تجارة العبيد ، وتبعتها بريطانيا وأمريكا ، ثم عقدت دول أوربا معاهدةً منع تجارة العبيد ، وتوالت بعد ذلك الدول في تحرير العبيد ، وقد عقدت عصبة الأمم مؤتمراً قررت فيه منع تجارة العبيد وإلغاء العبودية بشتى أشكالها ، وأصبحت العبودية فيما بعد محظورةً تماماً ، ومع مرور أكثر من قرن على هذا المؤتمر ، يزداد كل يوم وضوحاً أن ما زال الكثير والكثير جداً من القاطنين في أرجاء المعمورة بأركانها الأربعة في حالة استعباد تام أو أقرب إليه من أن يكونوا أحراراً كما يظنون ، ولكن بطرق ووسائل غير التي كانت شائعةً سابقاً ، حين كان الاستعباد محصوراً في إغارة بعض القبائل على بعض ، وأسر الرجال والأطفال ، وسبي النساء ، والاستيلاء على ما يمكن حمله من متاع وخلافه ، أو القيام بقطع الطرق وخطف بعض المارة والسطو عليهم قبائل كانوا أو أفراداً ، واستخدام العنف والتهديد والإكراه والابتزاز ، أو إهداء بعض الرقيق وخاصة النساء من قبل ذويهم إلى آخرين . ثم صار إلى قيام بعض الدول باختطاف أبناء دول أخرى واستجلابهم كعبيد ، أو احتلال دولة لأخرى ، تستعبد شعبها وتستخدمه في أعمال السخرة ، بما يخدم مصالحها في هذه البلاد ونقل ما يمكنها نقله إلى البلد الأم . ومع موجات التحرر من الاستعمار ، أخذ الرق شكلاً آخر ، وهو سيطرة بعض أبناء هذه البلاد على الحكم فيها بالقوة العسكرية ، وما ترتب على ذلك من استيلائهم على خيرات هذه البلاد واستعباد شعوبها ، بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ ، استعباداً لا يبعد قيد أنملة عن أبشع صور الاستعباد في عصوره السحيقة . ومن طرق العبودية القديمة والتي ما زالت قائمةً في عصرنا هذا ، هؤلاء الذين يولدون ويتعاملون تلقائياً كممتلكات شخصية لسيدهم ، حيث يمتلك رقابهم منذ ولادتهم ، ويتحكم في مصائرهم ، وفي أمزجتهم وأهوائهم وغرائزهم وشهواتهم وأفكارهم وتعليمهم وزواجهم وإنجابهم ، كما هو الحال في معظم الدول التي يتوارث الحكم فيها الأبناء عن الآباء وعن الأجداد . ومن الناس من درج على تقديس من بيده السلطة ، وإكبار ذي الجاه والشهرة ، وعلى إجلال صاحب المال والثروة ، وإعطاء من يتحلى بهذه الصفات أكبر مما ينبغي من التوقير والإعزاز ، بل والمبالغة في تقديسه وتعظيمه . ومن الملاحظ أن جميع بلدان العالم التي تفتقر إلى التعليم والعدالة والمساواة والحرية في مختلف مجالاتها ، وذات بنية اجتماعية ضعيفة ، ويزداد الفقر فيها ، تعتبر بيئةً صالحةً ومثاليةً لفرض العبودية من قبل الحكام وقبولها من قبل الشعوب .

الغرض من الاستعباد :

وبمعرفة الغرض من الاسترقاق ، ستتضح الرؤية للكثير هل ما زالوا مستعبدين أم نالوا حريتهم كما يقال ويشاع !!! . فالغرض من استعباد الرجال كان ولا زال هو تسخيرهم ، بما لا يطيقون من عمل ، وفيما ما لا يؤجرون عليه ، أو يؤجرون بأقل القليل ، وفي شتى أنواع الأعمال والخدمات ، وخاصةً الرديئ والدنيئ منها ، وفي ظروف قاسية يتعرضون فيها لمخاطر شتى ، ولذا فمنهم من يعمل على مدار الساعة ، لتوفير احتياجاته أو للوفاء بدين عليه ، وإن عجز على سداده يُساء إليه ولأسرته ، وقد يؤخذ أحد أفرادها رهينةً أو يضطر لبيعه لسداد ما عليه ، تفادياً للحبس وتشرد أسرته من بعده ، كما تشمل أعمال السخرة للرجال التجنيد الإجباري ، حيث يخضع المجندون للسيطرة الكاملة ، وتفرض قيود على تحركاتهم وأنشطتهم ، وغالباً ما يقوم المجندون بالعمل في مشاريع غير مرتبطة بالدفاع عن البلاد ، أو في خدمة القادة في منازلهم ومشاريعهم الخاصة ، ويتشابه معهم السجناء حيث يتعرضون للعمل القسري في الأعمال الإنشائية والبنائية الشاقة غير المأجورة ، ويأتي من بعدهم من تقوم الحكومات بتوظيفهم للعمل في داوينها ومصالحها بأجر زهيد ، لا يسمن ولا يغني من جوع . وبناءً على ذلك ، فكل من لم يجد عملاً مناسباً لقدراته ومؤهلاته ، وبدخل مادي يوفر له حاجاته الضرورية ، وفي ساعات محددة ، بحيث يقضي وقتاً كافياً من يومه في رعاية أسرته وممارسة هوايته ، وتنمية مواهبه أو الترويح عن نفسه ، فهو ما زال في حالة استعباد . أما النساء فكن يستعبدن لغرض المتعة بمختلف أشكالها ، وتلبية المطالب الجنسية ، واستغلالهن في الدعارة ، فكل امرأة تقيم علاقةً مع أي رجل بدون رباط شرعي ، وتتنقل بين أحضان الرجال تحت أي مسمى وتحت أي مزاعم ، وكل فتاة تتعرى وتعرض جسدها للمشاهدين ، وكل مراهقة تحمل سفاحاً ، وإما أن تجهض أو تعرض طفلها لمن يريد تربيته ، وكل ابنة تكره على الزواج بما هو ليس كفوءً لها ، ولا يناسبها شكلاً ولا موضوعاً ، أو ما زالت في ريعان الطفولة لا تستطيعه وتحمل تبعاته ، أو كل سيدة تجبر على استخدامها كوعاء لتحقيق رغبة زوجين لم ينجبا في الحصول على طفل ، أي في الحمل بالإنابة أو نقل البويضات ، وسواء بأجر أم بدون ، فهي ما زالت في حالة استعباد . أما الأطفال فكان استعبادهم لاستغلالهم جنسياً أو بيعهم لبعض الأسر التي لم ترزق بالأطفال ، أو استخدامهم في الأعمال المنزلية ، أو التسول أو تجنيدهم في الحروب ، بل استجد عليهم استغلالهم عن طريق نزع الأعضاء والأنسجة ، وفي بعض الدول خاصةً الغربية تعتبر نفسها هي مالكة الأطفال ، أما الوالدان فهما مجرد مربين حالهم حال مربي الأبقار ، عليهم الالتزام بما حددته لهم الدولة وجيشها من المختصين التربويين ، وإلا انتزعتهم منهم ، لتقدمهم لمربين آخرين ، فهذا ما يحدث لهم في عصرنا هذا ، فهل تغير عن ذي قبل ، وهل نال الأطفال حريتهم .

فضلاً عما سبق ، فهناك عدة ظواهر أينما وجدت ، كثر معها المعبودات من دون الله ، ووجدت العبودية في أي من صورها : فطالما هناك من يعتقدون إنهم ما خلقوا إلا ليسودوا ويحكموا ، وما خلق غيرهم إلا لخدمتهم مقهورين ، والانصياع إليهم مذلولين ، والائتمار بأمرهم مجبورين ، وسواء كان هذا الاعتقاد لفرد أو لطبقة أو لجماعة أو لهيئة أو لدولة ، وسواء تغيرت صفات هؤلاء السادة وهيئاتهم ولهجاتهم بين الحين والآخر أم لم تتغير ، فلا يخرج مطمعهم ومطمحهم عن استعباد الناس كافة ، بأي طريقة أو وسيلة ومهما كلفهم هذا الأمر . من هؤلاء من يوهمون شعوبهم بأنهم أحرار ، من خلال منحهم حرية مطلقة في ممارسة غرائزهم ، وتناولهم للمسكرات والمحرمات بأنواعها ، كيفما يحلو لهم وبدون ضابط ولا رابط ، والتحدث في كثير من الأمور التي تخص الدولة وسياستها الداخلية والخارجية عبر أجهزة الإعلام بدون رقيب ولا حسيب ، وهو ما لا يتوافر في الغالبية العظمى من دول أخرى ، واختيار ممثلين لهم في المجالس التشريعية والنيابية ، ولم يكترثوا بكيفما ينجح هؤلاء ، ولمن ينجحوا ، والغرض الحقيقي من وراء نجاحهم ، وإلى أين تقدوهم تشريعاتهم هذه التي تبيح ما نهى الله عنه ، فضلاً عن ما يرونه من تداول السلطة والذي تتباهي به هذه الدول ، رغم إن في أكثرها لا يتناولها إلا حزبان لا أكثر ، كما لو كانت مباراة كرة ، يتقاسم الفريقان طوال شوطيها امتلاك الكرة ، ورغم ما يعلن ويذاع عن دور المال والدعاية وتوجيه الآراء كما يُراد لها وحسب ما هو محدد ومخطط له سابقاً . ومن هؤلاء أيضاً من يظنون ويشاعون أنهم مبعوثو العناية       الإلهية ، وممثلو الله في الأرض ، وقد اختارهم المولى عز وجل واصطفاهم ليكونوا أولياء على البشر ، حكاماً ومستعبدين لهم ، يعلون على كل خلق الله ، ويتكبرون عليهم ، يوحون إليهم بأنهم ينفردون بصفات وقدرات عن سائر البشر أودعها الله فيهم ، وعلى هذا فهم يوصفون بكل كمال ، منزهين عن كل عيب ونقص ، أفعالهم صادره عن تمام الحكمة والمصلحة ، وما ينطقون به مقدساً ، لا يأتيهم الباطل لا من قريب ولا من بعيد ، ولا يسألون عما يفعلون ، فهم ليسوا موضعاً للنقد ولا للمعارضة من أحد ، مقاليد الأمور كلها يجب أن تكون بيدهم وحدهم .

صور وصفات العبيد :

وطالما هناك من يشعر بأنه لا قيمة له ، ولا لحياته ، وأن قيمته لا تتعدى قيمة أي دابة أو غلة تباع وتشترى ، وتنتقل من مالك إلى مالك ، ومن مكان إلى آخر ، وعندما تمرض أو تشيخ أو تتلف ، إما أن تترك تصارع الموت ، أو تلقى فيما يشبه مكب النفايات ، أو تقتل وتستخدم أعضاؤها كقطع غيار ، ويقدم ما بقي من جسدها طعاماً للحيوانات ، ومادام هو على قيد الحياة ، فجسده ووقته وماله وعرضه مباح لسيده يستغله كيفما ووقتما يشاء ويهوى ، فهو لا يملك من أمره شيئاً ، تجده منهك القوى من ساعات العمل الطويلة وقلة الزاد والزواد ، التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، ولا تقيم له صلباً ، تكاد تكفيه ليطوي ليله ، في انتظار غد آخر في مسيرة العبودية ، لا يكترث بالحياة ولا يهتم بها ، شعاره دعونا نأكل ونشرب ونتناسل ، وهذا هو هدفنا في الحياة ، لا نريد منها غير ذلك ، ولا أكثر من ذلك ، لا بهمنا من يملكنا أو من يحكمنا ، مستعمراً كان أم ابن بلد ، ظالماً كان أم عادلاً ، فماذا أفادتنا الحرية ، إلا أن بعض المثقفين ورجال الفكر والسياسة ، اتخذونا مادةً لأمسياتهم وحواراتهم ، يرتزقون منها ، وتسير بهم أجهزة الإعلام بذلك نحو الشهرة ، وطالما وجد من يفضل العمل تحت إمرة سيد أو سلطة تحكمه ، تسير له أمور حياته ، ويساق إليها سوقاً ، سواء كان هذا السيد شخصاً حقيقياً أو اعتبارياً ، ومن يتمتع بخضوعه أمام من يظن أنهم أولياء نعمته ، فرحاً بهذا الخضوع ، منتشياً بهذا الانسحاق المذل ، ولو ذهب سيده هذا لبحث عن آخر ، وكلما أزاح عن كاهله طاغية ، استنجد بآخر ، وأقصى طموحاته أن يكون أقل قسوةً وجوراً عن سابقه ، لا شأن له بما يدور حوله من أمور ، فهو لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم إلا بما يسمح له ، سلم عقله وحواسه لسيده يوجهها حيث رأى ويسيرها حيثما أراد ، يستسلم للإملاءات التي تفرض عليه ، مطيعاً لها لأقصى حد ، خاضعاً لما يريده سيده ، ولا يعصي له  أمراً ، فلا يقبل منه أي نقاش ولا يسمح له بإبداء رأي أو وجهة نظر ، فاقداً لقدرته في التعبير حتى عن همومه وإحزانه وعن أفراحه وأشجانه ، أو اتخاذ أي قرار يخص ذاته ، فهو مسلوب الحرية ، منزوع الإرادة ، مقهور النفس ، مهزوم الروح ، لا انتماء له ولا ولاء عنده إلا لسيده وحده ، يتبارى في الدفاع عن سيده ، وتبرير صنيعه ، واعتراض نقده ، أو الانتقاص منه ، أو التحريض عليه ، وإن كان على خطأ فادح وصارخ ، يدرك أن سيده يتفنن في إذلاله ، وهو نفسه جلاده ، ولا ينبس ببنت شفة ، ويعلم أن سيده يريده غارقاً في الفقر والمرض والجهل والعنف والدمار ، ولا يتفوه بشيئ ، وعلى يقين بأن سيده لا يحتاجه إلا ليستخدمه في الهجوم على منافسيه وخصومه وتشويه صورتهم ونهب ممتلكاتهم ، أو للتوجّه إلى صناديق الاقتراع لالتقاط صور زائفة عن إقبال العبيد على الإدلاء بأصواتهم لصالحه ، تمسحه بسيده وتذلّله له ، كتمسح الحيوانات وتذللها لمربيها ، ولمن يطعمها ويسقيها ، يقدم كل آيات الخنوع من أجل تجنب غضبه ، واتقاء شره ، وكسب وده ، ونيل رضاه ، والعيش بأمان في كنف رعايته ، يقتطع من مدخراته لتقدم كقرابين لسيده تختلف مسمياتها وماهيتها من مكان لآخر ومن زمان لآخر ، منكساً رأسه دائماً ، لا يرفع بصره تجاه سيده ، انحناؤه أمام سيده أو أمام  تماثيله ، وصوره أقرب إلى الركوع من الانتصاب قائماً ، لا يكف ولا يمل عن تقبيل يده وأحذيته ، وهكذا تدور به الدائرة حتى يحين أجله ، التجسس على الغير ونقل أخبارهم وأفكارهم وتحركاتهم من شيمته ، بل والإساءة إليهم والتشكيك في إخلاصهم لإثبات وفائه لسيده ، وإبراز شخصه على أنه على كفاءة عن غيره ويستحق أكثر مما هو عليه ، كاذباً بطبعه ، يظهر عكس ما يبطن ، النفاق والتذلل والتودد منهجه ، يتمسكن إلى أن يتمكن ، له عدة أوجه ، وعدة أقنعة وألسنة ، متملقاً لكل ذي سلطة ، وخانعاً مستسلماً لمن بيده حاجاته ، ومداهناً للوجهاء والكبراء ، ومجالساً إياهم ، ومخاطباً ودهم وعطفهم ، مهادناً أو مراوغاً للنظير ، مؤازراً للضعفاء وللقوى الناعمة ساعة ضعفه وتهميشه ، وبمجرد تسلطه واستحواذه على مراكز السيادة والقوة ، فستجده محتقراً إياهم ومتكبراً ومتنمراً عليهم ، يخاف ولا يخجل من صفاته اللؤم والغدر حيث يحتفظ بالضغينة لفترة طويلة لا يسامح أبداً ، يوزع اتهاماته بالخيانة والشيطنة على الجميع ، يبطش ويفتك بمن هم دونه ، دون حد للرحمة أو العدل ، ولو نزلت بقومه نازلة أو حاقت بهم فاقة ، فكأن الأمر لا يعنيه بالمرة ، يضيف على نفسه صفة النزاهة والوطنية والقدسية ، وبقدر تجبره على الأدنى ، بقدر خضوعه للأعلى ، ومن هو أقوى منه ، ذليلاً وضيعاً ليس بوسعه مغادرة عبوديته لرؤسائه ، ولا شعوره بالنقص في ذاته أمام الجميع ، فهو عبد في ظاهره ، وعبد في باطنه وعبد في أحلامه وعبد في أفكاره وعبد في أخلاقه ، عبد في جوهره وعبد في مخبره ، مثل هذا وهم كثر ، هكذا تكونوا في أرحام أمهاتهم ، وهكذا هي جيناتهم البيولوجية ، وهكذا تبلورت أرواحهم وأحاسيسهم ، ومن يستشعر في نفسه بأن هذه الصفات في مجملها أو بعضها تنطبق عليه فهو ما زال في مجال الرق ، ولا يلومن إلا نفسه .

من يرتضي بالاستعباد ومن لا يرضى به :

وختاماً لابد من أن نفرق بين نوعين من البشر تم استعبادهما ، أولهما : من وقع تحت نيران العبودية قهراً وغصباً وغلبةً ، ومثل هؤلاء تجد في داخل البعض منهم ، نزعات إلى الحرية ، وتطلعات لفك أسرهم ، وتحرير أنفسهم ، كلما شقت لهم ثغرة أو فجوة أو هوة أو مجرد فرجة أو صدع ، هبوا للخروج منه ، وإذا جاءتهم فرصة للتحرر بأي من السبل اقتنصوها بكل ما لديهم من طاقة ، فقد حدثت ثورات للعبيد في معظم المجتمعات تقريباً التي كانت تمارس نظام العبودية ، ومن أمثلة هؤلاء الذين غيروا أو حاولوا تغير مسرى حياتهم ، العبد سبارتاكوس الذي قاد أشهر تمرد للعبيد ، في أوربا بإيطاليا الرومانية بين عامي 73 – 71 قبل الميلاد ، وفي عهد الدولة العباسية حدثت ثورة الزنج أو ثورة الزنوج كما يسميها البعض ، والتي تضمنت سلسلةً من الانتفاضات بين عامي 869 – 883م قرب مدينة البصرة في العراق ، كما كان المماليك جنوداً عبيداً ، اعتنقوا الإسلام وخدموا الخلفاء والسلاطين الأمويين ، ومع مرور الوقت أصبحت هذه الطبقة قوةً عسكريةً قويةً ، وقرروا الاستيلاء على السلطة لأنفسهم فحكموا مصر 267 عاماً منذ 1250 حتى 1517م ، وقد استطاع جيش المماليك بقيادة سيف الدين قطز ، إلحاق أول هزيمة قاسية بجيش المغول ، في معركة عين جالوت ، كما حقق بعض العبيد العثمانيين شهرةً كبيرةً واعتلوا مناصب ومراكز هامةً في بلادهم .

وثانيهما : من يقع تحت وطأة العبودية عن رضى بها ، استلذ الاستعباد ، وارتاح للاسترقاق ، فسلم نفسه لها طواعيةً ، وأذعن وخضع ورضخ لمن يقوده ويوجهه ، ويأمره وينهاه ، ويطعمه ويسقيه ، ويكسوه ويعريه ، ويشبع له شهواته ، يجد فيها ملاذه ومغرمه ومبتغاه وأقصى أمانيه ، ورغم كل مآسي حياته ، تطيب لها نفسه ، ويفضل بقاءها على ما هي ، وإن وردت عليه خاطرة رغبةً في التخلص مما هو فيه ، يقتلها في مهدها ، فشيطنة دعاة التحرر والمجاهدين ، والعذاب الذي يقع عليهم ، والويلات التي يتعرضون لها ، دافع له للاستسلام لواقعه ، وتثبيط لأي همة لديه للتحرر ، ومثل هذا وهم كثرة كثيرة مهما فتحت لهم أبواب للخروج من العبودية تأنف نفوسهم ذلك ، ويأبون الخروج منها ويفضلون البقاء تحت وطأتها ، ليس لديهم أي رغبة أو إرادة لتغير الأوضاع المزرية التي يعيشونها ، وكلما فتحت لهم نافذة من نوافذ الحرية ، أقاموا أمامها المتاريس ، وأغلقوها بالضبة والمفتاح ، فعندما أراد المولى عز وجل ، أن تهب بعض نسائم الحرية على شعوب المنطقة ، أبت جحافل العبيد ، ألا يستنشقوا عبيرها ، وألا يتنفسوا هواءها العليل ، فهبوا على قلب رجل واحد ، ليقيموا المصدات والمتاريس والحصون أمامها ، وليعيدوا أنفسهم إلى حظيرة العبودية مرةً أخرى ، وأبوا ألا يمضي عليهم الليل ، إلا وهم أسرى وسبايا في حظيرة العبودية مرةً أخرى . ومثل هؤلاء يمثلون شريحةً كبيرةً في أي مجتمع ، تتسع لتشمل مثقفين وأصحاب مناصب وأثرياء ووجهاء مجتمع وساسة ومدعين التزامهم بالدين خلقاً وسلوكاً ، ومؤدين للشعائر والعبادات ، وتشمل أيضاً فئات من قاع المجتمع لم ينالوا أي قسط من التعليم ، ويعيشون كفافاً يوماً بيوم ، إن وجدوا فطورهم لا يجدون عشاءهم ، وإن وجدوا كسوة الصيف لا يجدونها للشتاء ، تأويهم العشش والبنايات الآيلة للسقوط ، فالأمم التي تستلم للذل ، خوفاً من الموت ، تموت في كل لحظة وفي كل موقف ، وهي تتوهم أنها ما زالت على قيد الحياة .

ولذا بعد ذلك كله فليس من المستغرب أن نجد في أيامنا هذه من يرفع شعاراً ينادي بالحرية ، أو من يصرخ مستغيثاً أعتقونا لوجه الله .

* جمهورية مصر العربية .