موقف الزمخشري في البلاغة القرآنية : دراسة تحليلية
ديسمبر 23, 2024رحلة إلى الأردن بين المقدسات والمعالم ( الحلقة الثالثة )
ديسمبر 23, 2024دراسات وأبحاث :
أثر القرآن الكريم في تطوير النقد العربي القديم
الدكتور بلال أحمد شاه *
النقد في اللغة :
يقول ابن فارس في تعريفه للنقد : النون والقاف والدال أصل صحيح ، يدل على إبراز الشيئ وبروزه [1] ، وجاء في لسان العرب : هو نقد الدراهم ، وذلك أن يكشف عن حاله في جودته أو غير ذلك ، ونقد الدراهم : أي إخراج المزيف منها [2] .
جاء في المعاجم العربية أن لفظة ” نقد ” تعني تمييز الدراهم والدنانير وإخراج الزائف منها . وقد استعمل هذا اللفظ قديماً ليدل على هذا المعنى .
فنقدت الدراهم والدنانير وانتقدتها إذا أخرجت الزائف منها ، والنقد والتنقاد بنفس المعنى ، وقد ورد في المعاجم أيضاً نقد الشعر والكلام أي نظر فيه وميّز الجيد من الرديئ ، فهو ناقد وجمعه نقاد ونقدة ، ونقد الكلام أبان ما فيه من عيب أو زيف ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ، فكما يستطيع الصيرفي أن يميز الدراهم والدنانير ، والصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز الشعر الجيد من الرديء .
النقد في الاصطلاح :
أما في التعريف الاصطلاحي : عرّف النقد في الاصطلاح تعريفات متعددة منها : أن النقد تفسير للنص الأدبي ومساعدة القارئ على فهمه وتذوقه ، وذلك عن طريق فحصه وعرض ما فيه من قيم فنية وجمالية . وكذلك هو فن دراسة النص الأدبي وإظهار قيمته . وهو فلسفة الأدب لأنه يجلو جوهره ويفسر حقائقه التي ينطوي عليها . والنقد هو دراسة الأساليب وتمييزها ، أي معرفة منحى الأديب وطريقته في التأليف والتعبير والتفكير والإحساس ، فضلاً عن طرق الأداء اللغوية .
فالنقد في حقيقته تعبير عن موقف كلي متكامل في النظرة إلى الفن عامة ، يبدأ بالتذوق ، أي القدرة على التمييز ، ويعبر منها إلى التفسير والتحليل والتقييم ، كما أنه يعتبر تمحيصاً للعمل الأدبي بشكل متكامل ، حال الانتهاء من القيام به ، أما النقد الأدبي ، فهو تفحص الأعمال الأدبية ، والكشف عن مواطن الجودة والرداءة فيها ، والناقد هو الذي يبحث عن مكامن القوة والضعف في كل عمل أدبي .
ولقد أحدث القرآن الكريم أثراً كبيراً في النقد حيث كان العرب في الجاهلية أشد الناس فصاحةً ، وأكثرهم نظماً للشعر الجيد والموزون والمنظوم ، بشكل رائع ، حيث كان الشاعر يفضل على الخطيب ، ويعتبر لسان قومه ، إذا مدح جماعةً رفعهم ، وإذا هجاهم جعلهم أذل الناس ، فكان الشعر من بين المواضيع الهامة التي يتداولها الناس آنذاك ، وكان النقد انطباعياً بسيطاً ، ساهم في ظهوره اللقاءات الشعرية التي كانت تعقد بالأسواق الأدبية ، كعكاظ ، وذي المجاز ، حيث يجتمع الشعراء ويتنافسون ويعرضون أجود أشعارهم ، وكان الشاعر النابغة الذبياني حكماً عليهم آنذاك . لكن مع مجيئ الإسلام ، أخذ النقد طريقاً آخر غير الذي كان يسلكه في الجاهلية ، فقد تميزت هذه المرحلة بنزول القرآن الكريم ، الذي أخذ مكان الصدارة ، لكونه النص الأدبي الأول لهذه الأمة ، والكتاب المبين المعجز ، بالإضافة إلى أنه وحي السماء ، فقد أثار منذ اللحظة الأولى لنزوله حركة فكرية جديدة عند العرب .
ودعاهم إلى الالتفات لما جاء به من جديد في أساليب التعبير والبيان ، وعلقت أفئدتهم وأسماعهم بما تضمنه من كلام رائع ، فلم يسعهم إزاءه إلا التسليم بروعة أثره في النفوس وفي العقول ، فمن قائل أنه سحر ، ومن قائل أنه شعر ، ومن قائل أنه أساطير الأولين ، هذا لأنه أضحى في الرتبة الأولى ، وصار الشعر بعده ، ذلك لأن الشعراء انبهروا بروعة بيانه ، فمنهم من تفرغ لخدمته ، ومنهم من صار توجهه الدفاع عن الدعوة الإسلامية ، ومن بين أمثلة الإعجاب ، نجد قول عتبة بن ربيعة ، حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم الأجزاء الأولى من سورة فصلت ، ثم عاد إلى قومه فسألوه : ” ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال : ورائي أني سمعت قولاً ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة ، يا معشر قريش ! أطيعوني وخلوا بين الرجل وبين ما هو فيه ، وقول الوليد ابن المغيرة : والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه جناة ” [3] . ومنذ بدء الدعوة الإسلامية برزت ظاهرتان متصلتان بالحياة الأدبية ، أولهما : نزول القرآن الكريم وتصدره على كل ما أنتج العرب من أدب وبيان ، ثانيهما : ظاهرة الإعجاز البلاغي وقيام الرسالة السماوية عليه ، لذلك ركزوا على دراسته دراسةً نقديةً تعتمد على البحث في الأساليب ، والتعمق في أسرار البلاغة ، والموازنة بين ألوان الكلام الرفيع .
وبدأت مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم تترسم خطاه في التفسير ، وتحفظ ما نقل عنه وترويه ، وقد تتزيد فيه بحذر ، في شرح لفظ الغريب ، أو بيان حكمة أو موعظة ، وقد نشأت طبقة القراء في صدر الإسلام ، تحفظ القرآن الكريم وتلم ببعض التفسير على النحو السابق ، ثم يبعث بها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى القبائل يعلمونهم القرآن ويفقهونهم في معانيه .
وقد انقسم الصحابة رضي الله عنهم إلى قسمين : متحرج من القول في القرآن الكريم ، كأبي بكر وعمر وغيرهم . . . . والقسم الثاني الذين لم يتحرجوا ، وفسروا القرآن حسب فهمهم من الرسول صلى الله عليه وسلم ، بالاستعانة بالشعر العربي ، وكلام العرب ، ومنهم علي ابن أبي طالب ، وعبد الله بن عباس .
وتتجلى أسباب تأثر النقد بالقرآن في تجاوز لمستوى العرب في الفصاحة والبيان ، مما جعلهم يبحثون عن مكامن الجمال فيه ودراستها ، مما دعا إلى البحث عن أدوات النقد لاكتشاف أسرار الجمال في هذا الكتاب المعجز ، لذلك نشأت مجموعة من العلوم من بينها النحو ، الذي يختص بضبط قراءة القرآن الكريم وكذلك البلاغة ، ولا يتوقف عند هذا الحد فقط ، بل ما زال يمد الباحثين بالعديد من العلوم المتجددة ، فهو بحر لا ينفد ، أو كما قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لا تفنى عجائبه ولا يبلى على كثرة الخلق ” .
ومن مظاهر تأثر النقد بكتاب الله عز وجل ، تخصيص مجموعة من النقاد حيزاً كبيراً لدراستهم للقرآن ، ومن بينهم ابن قتيبة الذي قال في كتابه تأويل مشكل القرآن ” وإنما يعرف فضل القرآن من كثر نظره واتسع علمه وفهم مذاهب العرب واقتنانها في الأساليب ” [4] . وهذا دليل واضح على المكانة التي حظي بها القرآن الكريم ، كما أن ابن قتيبة قد اشتغل في النقد بتوضيح ما استعصى فهمه ، والدفاع عن القرآن في قضايا التشابه والاختلاف والمجاز ، بالإضافة إلى العديد من النقاد كابن سنان الخفاجي ، وعبد القاهر الجرجاني ، اللذين جعلا مادة دراستهما هي القرآن الكريم في كتابيهما دلائل الإعجاز ، وسر الفصاحة ، بالإضافة إلى البيان والتبيين للجاحظ ، والصناعتين لأبي هلال العسكري .
لقد أدى هذا الاهتمام الكبير بالقرآن الكريم إلى الإقبال على دراسته بجانب اللغة والشعر ، بهدف التفسير من جهة ، ثم التنقية اللغوية من جهة أخرى ، فبدأت حركة التأليف ، واحتدمت المعارك بين الشعراء واللغويين أنفسهم ، وذلك يتضح من خلال جانبين :
يتمثل الأول في الدراسات اللغوية حيث أصبح القرآن الكريم بفضل تطورها محط اهتمام العرب ، إذ حرصوا على الحفاظ على اللغة العربية رغبة في حفظ لغة القرآن الكريم ، كي يظل مفهوماً ومقروءاً ومتدارساً ، ومع مطلع القرن الثاني الهجري ، انتشرت اللغة العربية واتسعت رقعتها ، وزاد الإقبال على دراسة القرآن واللغة والشعر ، فكان لهذا التطور تأثير كبير على الدراسات اللغوية والنقدية .
ويعتبر هذا الكتاب المعجز ، من الدوافع الغير المباشرة في اهتمام الوافدين الجدد باللغة العربية ، فالقرآن هو كتاب العربية الأول ، ودستور الإسلام الجديد ، والعربية لغة المسلمين الفاتحين ، ولغة الأدب والكتابة والسياسة والحكم ، وللقرآن ما يعين على فهمه : كالتفسير ومعرفة الغريب والإلمام بالنحو والشعر وغيرها .
ومع اتساع الحركة الفكرية والتداخل بين الثقافات ، أقبل الفرس على تعلم القرآن وعلوم العربية ، وبدأ العرب يتطلعون إلى ثقافة الفرس ، فنتج عن هذا التداخل أن شابت اللسان العربي بعض الشوائب الغريبة : كالتحريف ، والتداخل في بعض الألفاظ الأعجمية ، وكنتيجة لهذا الاختلاط ، احتدمت المعارك اللغوية بين الشعراء واللغويين ، وبرزت كذلك حركة التنقية اللغوية ، إلى جانب قيام مجموعة من العلماء بوضع القواعد والأصول ، لضبط اللغة وقياسها ، وفهم ما جاء منها عن طريق الشرح ، ووضع المعاجم التي ظهر منها في هذا العصر كتاب العين ، للخليل بن أحمد الفراهيدي .
وكان للقرآن الكريم الأثر الكبير في العديد من الكتب ، من بينهما تفسير غريب القرآن وإعراب القرآن ، وتأويل مشكل القرآن لابن قتيبة .
ويتمثل الثاني في الدراسات الشعرية حيث كان الشعر في العصر الجاهلي يحتل المرتبة الأولى ، ويحظى باهتمام الناس آنذاك ، حيث بلغت مرتبة الشاعر مراتب الزعماء والرؤساء ، إذ كانت تبشر بمولده القبائل ، وتستند إليه في الدفاع عن نفسها ، فهو لسانها الناطق باسمها ، يرفع من شأن من مدحه ، ويذل من هجاه ، يثير الحماس في النفوس فتندفع للقتال أو تقبل على الخير ، لكن مع نزول القرآن الكريم تغيرت الموازين ، ونزل الشعر عن مرتبته ، لأن بيان القرآن كان معجزاً ، وصار بعد ذلك الشعر عوناً للناس على فهم القرآن ، فقد قال ابن العباس ” إذا صعب عليكم شيئ من معاني القرآن فالتمسوه في الشعر ، فالشعر ديوان العرب ” [5] .
وانطلقت بذلك حركة التفسير مستعينة بالشعر ، وتقدم الزمن ، وخرج الشعر والقرآن كلاهما من بيئتهما وسط الجزيرة إلى أوطان غريبة ، لم يفهم أهلها القرآن ولا الشعر ، فظهرت مجموعة من المفسرين والرواة يفسرون القرآن ويجمعون الشعر ويشرحونه للناس ، ومن بينهم : حماد الراوية ، وخلف الأحمر ، وأبو عمر بن العلاء . وكانت هناك حلقات النقد في قصور الخلفاء ، يتعرض فيها الشعراء ممن حضر المجلس ، أو الخلفاء أنفسهم ، وعرفوا بالبراعة في نقد الشعر ، وكان الناس يهتمون به في صدر الإسلام والعصر الأموي ليستشهدوا به على القرآن الكريم .
أما في العصر العباسي ، فقد امتزج اللسان العربي بغيره ، وظهرت بعض اللهجات العامية التي أخذ أسلوب القرآن يبتعد عنها ، وكان الاستشهاد على غريب الشعر يدعم بالآيات القرآنية بالموازاة مع تأثر حركة النقد بالدراسات القرآنية ، برزت حركة إنشائية في صناعة الشعر ، ذلك أن الشعراء المحدثين والكتاب بدأوا يجددون في الشعر والكتابة ، لكن باللجوء إلى الصنعة والتنميق ، والاستعانة بالبديع وضروب الصناعة اللفظية والبيانية .
هكذا كان للقرآن الكريم دور في تغيير مسار النقد ، كما غير أسلوب الحياة ، وحظيت اللغة العربية بمكانة عالية بفضله ، فقد تكرر ذكرها في العديد من الآيات في القرآن الكريم ومنها قوله تعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرآناً عَرَبِياً لَعَلّكُم تَعقِلُون ) [6] ، وهذا ما جعلها أفضل اللغات إلى يومنا هذا ، وبرزت مجموعة من العلوم التي أصبحت في خدمتها ، من نحو وبلاغة ، إلى جانب ظهور العديد من النقاد ، وتأليف كتب نقدية تدرس القرآن وتهتم به من مختلف المناحي ، وصار الشعر في خدمة الدعوة الإسلامية وتفسير القرآن ومدح النبي صلى الله عليه وسلم ، كما استمر ذلك في العصر الأموي مع الخلفاء والولاة والحكام ، وظل القرآن الكريم في مختلف العصور المزود الرئيسي بشتى العلوم ، واحتل الرتبة الأولى في الدراسات النقدية .
* الأستاذ المساعد ، قسم اللغة العربية وآدابها ، جامعة كشمير ، سرينغر .
[1] ابن فارس ، ( أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي ) معجم مقاييس اللغة ، المحقق : عبد السلام محمد هارون ، دار الفكر بيروت ، 1979م ، ( كتاب النون – باب النون وما بعدها ) .
[2] ابن منظور الأنصاري ، ( محمد بن مكرم ) ، لسان العرب ، مادة ( ن ق د ) ، الحواشي ، اليازجي وجماعة من اللغويين ، دار صادر بيروت ، الطبعة الثالثة – 1414هـ .
[3] القرآن الكريم ، تفسير ابن كثير ، تفسير سورة فصلت – الآية 5 ، ابن كثير البداية والنهاية ، الجزء الثالث ، باب مجادلة النبي صلى الله عليه وسلم الكفار وإقامة الحجة الدامغة عليهم ، ج 3 ، ص 82 ، دار الفكر بيروت .
[4] ابن قتيبة الدينوري ، تأويل مشكل القرآن ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، ص 17 .
[5] جلال الدين السيوطي ، الإتقان في علوم القرآن ، الهيئة المصرية العامة للكتب ، 1974م ، ج 1 ، ص 347 .
[6] سورة يوسف ، الآية – 2 .