الشيخ عبدالعزيز البشري

الشاعر المجاهد علي الغاياتي
يناير 1, 2020
الشاعر المجاهد علي الغاياتي
يناير 1, 2020

الشيخ عبدالعزيز البشري

جاحظ العصر الحديث الذي نسيه الأدباء

بقلم : الكاتب الإسلامي الشهير الدكتور / غريب جمعة ، القاهرة

تقدم في الحلقة السابقة أن الشيخ البشري عالج المقالة النقدية والمقالة الاجتماعية والمقالة الوصفية معالجةً جعلته في الصدر الأول من البلغاء وقرنته بالجاحظ إمام البيان العربي على مر العصور ، لقد تمكن الرجل من ملكة النقد الأدبي ثم حباه الله ملكة أخرى هي النقد الاجتماعي . . فكان ناقداً اجتماعياً من الطراز الأول حيث نقد سلبيات المجتمع المصري ، وشهر قلمه للدفاع عن حقوق الفلاح وعن الطفولة المشردة ، وندد بالاحتلال البريطاني وصنائعه في قمة طغيانهم وذروة جبروتهم ، وتحدث عن معركة العمامة والطربوش ، وكان له رأي فيها على الرغم من أنه ظل يضع العمامة على رأسه حتى انتقل إلى جوار ربه تعالى كما أبدع أيما إبداع حين تحدث في كتابه ” في المرأة ” عن زعماء السياسة وأعلام الاقتصاد والقانون ، والإدارة والبيان والفن ، كما تحدث في مؤلفات أخرى عن شتى طوائف الشعب من المقرئين والملحنين ورجال الصحافة ثم من المتطفلين والسوقة والشحاذين وماسحي الأحذية والنادبين في المآتم ، والصائحين في الأفراح – وهو في كل ذلك يكشف عن المخبوء ويرسم هجسات النفوس ، ويصور منازع اللوم والاحتيال ودواعي الملق وأسباب التغطرس الكاذب والاستعلاء البغيض .

وإذا كان في هذا القول إجمال فإليك بعض التفاصيل في صورة أمثلة لما كتبه الشيخ ( بتصرف ) حيث لا يمكن أن نكتب المقال بالكامل .

  1. نقده لأحد رؤساء الوزارات في مصر :

هذا الرئيس هو أحمد زِيورْ باشا الذي كان كقطعة الشطرنج في يد المحتلين الإنجليز يحركونه متى وكيف شاؤوا ، وقد تولى رئاسة الوزارة المصرية في أوائل القرن العشرين الميلادي .

والعجيب أن هذا النقد كان أثناء تولي أحمد زيور لرئاسة الوزارة . يقول الشيخ ناقداً :

” أما شكله الخارجي وأوضاعه الهندسية ورسم قطاعاته ومساقطه الأفقية ، فذلك كله يحتاج في وصفه وضبط مساحاته إلى فن دقيق وهندسة بارعة . والواقع أن ” زيور باشا ” رجل – إذا صح هذا التعبير – يمتاز عن سائر الناس في كل شيئ ، ولست أعني بامتيازه في شكله المهول طوله ولا عرضه ولا بعد مداه ، فإن في الناس من هو أبدن منه وأبعد طولاً وأوفر لحماً ، إلا أن لكل منهم هيكلاً واحداً ، أما صاحبنا فإذا اطلعت عليه ، أدركت لأول وهلة أنه مؤلف من عدة مخلوقات لا تدري كيف اتصلت ولا تعلق بعضها ببعض ، وإنك لترى بينها الثابت وبينها  المختلج ، ومنها ما يدور حول نفسه ، ومنها ما يدور حول غيره وفيها المتيبس المتحجر وفيها المسترخي المترهل . وعلى كل حال فقد خرجت هضبة عالية مالت من شعافها إلى الإمام شَعَفَةٌ طويلة أطل من فوقها على الوادي رأس فيه عينان زائغتان طلَّة من يرتقب السقوط إلى قرارة ذلك الهوى السحيق ” .

( الشَعَفَةُ من كل شيئ : أعلاه . يقال : شَعَفَةُ الجبل و شَعَفَةُ الرأس والجمع : شَعَف وشِعَاف وشُعُوف ) – المعجم الوسيط .

ثم ينتقل إلى وصف أخلاقه وطباعه وعاداته وأسلوبه في الحكم بهذا الأسلوب الرائع بعد وصف شكله الخارجي ، وقد ورد في وصفه  هذا : ” وإن أهل مصر ليأخذون زيور باشا كلَّه بما لا يُحصى من الجرائم على القضية الوطنية ، وإنهم ليعدون عليه سفهه في أموال الدولة واستهتاره بمصالحها ، وإنهم ليحسبون عليه إيثاره الأهل والأقربين والأصحاب والمحبين وذوي أرحامهم بمناصب الدولة ومنافعها ، وقد يكون لمجلس النواب مع هؤلاء الرجل (لأنه مكون من عدة أجزاء كما عرفت ) شأن إذا أقبل يوم الحساب ” ، ويستمر حتى يقول : ” وبعد فإذا كان هناك وصف جامع وخّلَّة مشتركة لهذه الخلائق التي تجمعت لجسم زيور باشا حتى انتظمت فيه شعباً واحداً فذلك أنه قسيس جُزويتي في جلباب رئيس وزارة مصري فقد تربى زيور في مدارس الجزويت الأجنبية كما قلت لك وتخرج عليهم وتخلق بأخلاقهم فإذا رأيت في طبعه سهولة وفي نفسه بساطة فذلك لبعد غوره حتى ليخفى عليك ما في نفسه من مكر ودهاء ” .

  1. حديثه عن حافظ ابراهيم أعز أصدقائه وأخلص خلصائه :

” جَهْم الصوت ، جهْم الخلْق ، جهْم الجسم ، كأنما قُدَّ من صخرة في فلاة موحشة ، ثم فكر في آخر ساعة في أن يكون إنساناً فكان ( والسلام ) . أما ما يدعي فمه فكأنما شُقَّ لبدء الخلق شقا ، وأما عيناه فكأنما دُقتَّا بمسمارين دقا ، وأما لون بشرته والعياذ بالله فكأنما عُهد به إلى نقَّاش مبتدئ ، تشابهت عليه الأصباغ والألوان ، فداف ( خلط ) أصفرها في أخضرها في أبيضها في بنفسجها فخرج من هذا كله لا يرتبط من واحد بسبب ولا يتصل بنسب ، وإنك لو نضوت عنه ثيابه وألبسته دُرَّاعة دونها سراويل وأفرغت عليه من فوقها جُبة ضافية ، وتوجته بعمامة عظيمة متخالفة الطَّيَّات لَخِلْته من فورك دهقانا من دهاقين الفرس الأقدمين فإذا جردته كله وأطلقته في البر حسبته فيلاً أو أرسلته في البحر ظننته درفيلاً ! ولكن ! . . . اكشف بعد هذا عن نفسه التي يحتويها كل ذلك فلا والله ما النور بعد الظلام ولا العافية بعد السقام ولا الغنى بعد البؤس ، ولا إدراك المنى بعد طول اليأس بأشهى إليك ولا أدخل للسرور عليك من هذا حافظ إبراهيم !

خفيف الظل ، عذب الروح ، حلو الحديث حاضر البديهة رائع النكته بديع المحاضرة . ويستمر حتى يقول :

ولا ننسى لحافظ يداً جليلةً على اللغة العربية بما نظم وما نثر من إنشاء وترجمة ، فلقد طالما استخرج من مَجفُوِّها صيغاً طريفة بليغة أدت كثيراً من الأسباب الدائرة بين الناس مما تتحرك معانيه في الأنفس ويَعْيىَ أداؤه على الأقلام ” .

تصوير رائع ينفرد به البشري في مزاياه ، ولقد حاول كبار الكتاب أن يحلقوا معه في أفقه في رسم الشخصيات ظاهراً وتصوير الخلجات باطناً ، فأخفقوا لأن روح البشري عصية على التقليد وإن كان بعضهم من المبدعين الذي له مدرسته من المحتذين والمقلدين . . ولكن بقي البشري أستاذاً بلا تلميذ ! !

  1. البشري في ساعة الحزن :

ليس من العجب أن يرمي القدر صاحب هذه الفكاهة الضاحكة بما يشكو منه من مرض متقطع ، وبما يحزنه من فقد البنين فتلمس الآهة الحبيسة في ثنايا ما تسمع من ضحكات .

لقد شاهد الكاتب لحظات احتضار ابنه ” حسن ” في ليلة    مظلمة ، فجاءت كلماته التي سطرها القلم دموعاً تفيض بها العين من ينابيع حسرته ، فاستطاع أن ينقل مصيبته من صدره إلى صدور قرائه حيث يصف لوعته الحارة فيقول في الجزء الأول : لقد استحالت كل جارحة فِيَّ نفساً تعاني من سكرات الموت ما لا يعلم مدى أوجاعه وآلامه وبرحه إلا الله . فهذه تُزّمُّ بملازم الحديد زمَّاً ، وهذه تضغمها أنياب النمور ضغماً ، وهذه توخز بالإبر وخزاً ، وهذه تُحَزُّ بالمدى ( جمع مدية :  سكين ) حزَّا ، وهذه تَفْرِيها المخالب فرْياً ، وهذه تشويها النار شياً .

وكيف لي بعذاب نزع واحد ، ولم تصبح لي كسائر الناس نفس واحدة ، وإنما هي نفس واحدة تساقط أنفساً ! ! .

لا شك يا بني إنك مضيت إلى الجنة ، فإذا أحببت أن تعرف مبلغ عذاب أهل النار ، فأشده ما أنا فيه ، واحّرَّ قلباه .

إننا نعيش في هذه الدنيا عيش الآمن في سربه ، بل عيش الذي عاهد القدر على أن يسلم على الزمان فلا تكسرنه الكوارث أبداً . وإنا لنشعر في أنفسنا المزاح فنعبث ونضحك ، ولقد يضحكنا خلق من الناس وما ندري ماذا يضمر القدر بعد ساعة واحدة ، بل بعد دقيقة واحدة ، فلقد يكون فيما يضمر القدر ما يقد المتن قدَّاً وما يهد النفس هدَّاً وكذلك ما كان شأني فيك يا بنيَّ ! .

  1. وصفه لأحد أعلام قراء القرآن في عصره :

انتشرت أشرطة الكاسيت بصورة أصبح يذاع فيها الجيد والذي يحتاج إلى مراجعة حيث يخرج بعض القراء على قواعد التجويد التي وضعها علماؤه المختصون تجاوباً مع نغمة أصواتهم حتى ينالوا إعجاب المستمعين وتعبيرهم عن ذلك بصياح وصراخ لا يليق بمجلس القرآن لأنهم يجهلون أحكام التجويد وإنما يطربون للتنغيم والوقف والابتداء والإعادة ورفع الصوت وخفضه والتمطيط إلى غير ذلك مما يفعله أمثال هؤلاء القراء – عفا الله عنهم – .

والحق أن الأمر يحتاج إلى رقابة فنية حازمة تمنع هذا الانحراف .

وإذا جاز ذلك في الأغاني العاطفية ، فإن آيات الذكر الحكيم فوق هذا الانحراف الذي يتنافى مع جلال القرآن ويدل على فراغ القلب من الخشوع الواجب عند تلاوته . وهذا ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فيما رواه جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إن من أحسن الناس صوتاً بالقرآن الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله ” . ( رواه ابن ماجه في سننه . كتاب إمامة الصلاة 1/425 رقم 1329 ) .

لذلك لم يكن عجباً أن يهتم الشيخ البشري ببعض أئمة القراء في عصره إشادةً بفضلهم وتنويهاً بشأنهم وعلو كعبهم في ذلك حتى صاروا أحاديث المجالس خاصة مجالس القرآن .

والبشري أزهري بالطبع يفهم تعدد القراءات ومعنى الوقف والابتداء وأحكام التجويد ودقائق النحو والصرف ، لذلك فهو يبني حكمه الفني على القارئ لا على الصوت وحده بل على حظ القارئ من الالتزام بأحكام التجويد وفهم معنى ما يقرأ وما يظهر عليه من إمارات الخشوع والتأثر عند القراءة .

وها هو ذا يكتب فصلاً رائعاً عن واحد من أئمة القراء في عصره هو الشيخ أحمد ندا الذي كان ذائع الصيت في الربع الأول من القرن العشرين ، حيث لم تنتشر أسطوانات ولا شرائط التسجيل الصوتي لتحفظ روائع أدائه الفني لآيات القرآن ، ولكن الشيخ البشري حفظ له مقامه الكبير حين كتب خواطره عنه ، فكان كأنما صوره تصويراً وهو في مجلسه القرآني بعمامته وجبته ، وأسمع الناس صداه الرنان سماعاً يخلده على مر الزمان – حيث يقول واصفاً قراءته في النوبة الثانية بعد أن فرغ من قراءته في النوبة الأولى :

” فإذا جاءت نوبته الثانية واستوى في مجلس الترتيل رأيت فيه فتاء وقوة لا عهد لك بهما من قبل ، وخرج صوته مُرِنَّا واضحاً ليس عليه من الصدأ إلا القليل ويقرأ ويقرأ على أنه لا يأخذ في قراءته سمتاً واحداً بل ما يبرح يترجح في فنون النغم ، ولكن تجده هذه المرة ليس في التماس النغمة التي تعيذه وتعصمه بل في التماس تلك التي تضنيه وتتعبه ، إذ صوته في أثناء ذلك يقوى ويشتد ويعلو ويصفو حتى يصير أوضح من الفِرِنْد ( السيف وما يلمح في صفحته من تموج الضوء ) وينطلق في طلب الصيد من هنا ومن ها هنا ولا يَريغُ ( يطلب ) من النغم إلا الأوابد .

فإذا أصاب قنيصته راح يلون لها الافتراس ألواناً ويشكل لها الالتهام أشكالاً ، وهو في أثناء ذلك يقيم الناس ويقعدهم ويطويهم وينشرهم ويذيقهم المهول الرائع من الطرب والانبهار وما شاء الله لا قوة إلا بالله ” .