الشيخ محمد يوسف الكاندهلوي وإسهاماته في نشر علم الحديث
أبريل 27, 2024الشيخ المحدث محمد نعيم عطا السلوني
مايو 4, 2024رجال من التاريخ :
عبده زايد . . الصعيدي الأصيل !
شغله الإعجاز القرآني ونظرية النظم
بقلم : أ . د . حلمي محمد القاعود
عرفته منذ عقود . كان المزاح على الطريقة الأزهرية يشدّنا . رأيت فيه المروءة والشهامة والكرم ، وكان وفاؤه للإسلام وتصوراته واضحاً في كل كلمة كتبها .
طوحت بنا الأيام في الغربة ، فجمعنا الألم والأمل ، وسافرنا يميناً وشمالاً ، فكان بيته مثابةً للمسافر ، والباحث عن الدفء الروحي والراحة النفسية . . ولا أذكر أنه آذى شخصاً بكلمة ، أو ظلم أحداً من الناس . كان همه الفكري فوق كل الأمور الحياتية الآنية التي تشغل الناس في حياتهم اليومية والمعيشية .
وقبل كل ذلك كان من القابضين على الجمر . . لم تخدعه الشهرة ، ولم تبهره الدعاية ، فظل في بيته وكليته يقرأ ويكتب ، ويسجل في كتبه ومقالاته ما يؤمن به ويقتنع بصوابه .
فقدان الأحبة :
قبل أسابيع من رحيله كنا نتهاتف ، ونتذاكر الأصدقاء والزملاء ، وأخبرني أنه بخير ، وأن بعض أبنائه وأحفاده يزورونه ويتابعون مطالبه اليومية والإنسانية ، بعد أن فَقَد قبل نحو عامين قرينته الفاضلة بعد إصابتها بالكورونا ، فلم يبد جزعاً أو هلعاً ، كان صابراً محتسباً ، مؤمناً بالصبر الجميل ، وجاء نعيه قبيل ظهيرة السبت الأول من رجب 1445هـ الثالث عشر من يناير 2024م ، بانتقاله إلى رحمة مولاه ، على غير توقع ، فلم يكن مريضاً عند الهتاف الأخير ، ولم يكن يشكو من ألم . كان طبيعياً ويتحدث في أمور وقضايا ، ويناقش معي مناقشةً علميةً عاديةً ، ولم يكن في صوته ما ينبئ عن معاناة . الموت حق ، وأمر متوقع في كل لحظة ، وهناك من يتوقع رحيله وفقاً لأمارات المرض والعمر والمتاعب البشرية ، ولكنه كان سليماً معافىً تجاوز محنة ” الجلطة ” قبل سنوات ، وكان سعيداً بمواصلة ذهابه إلى الجامعة ليحاضر طلاب الدراسات العليا ، ويلتقي بزملائه وأصدقائه . ولكن رحيل قرينته ترك أثراً مباشراً عليه ، حيث تركته وحيداً لا يُشبع أُنْسه الأولاد ولا الأحفاد وإن حاولوا بحضورهم المبهج ، ووجودهم المُرضي .
دفعة الإمام :
كانت عقيلته – من عائلة الحساسنة – أنسه الدائم ، وحصنه المانع ، وقد رأيت تأثير فراقها واضحاً في كلماته ، وإن لم يبد جزعاً ، وقد نعاها شيخ الأزهر الحالي الدكتور أحمد الطيب حين انتقلت إلى الرفيق الأعلى ، فقد كان الشيخ من دفعة عبده زايد في المراحل الدراسية الأزهرية المختلفة ( وكنت من أبناء هذه الدفعة على بعد المكان بين أقصى الجنوب وأقصى الشمال ) ، وكان الشيخ قريباً من الأسرة ، فضلاً عن الانتماء إلى قرية واحدة هي القرنة بالأقصر ( جنوب مصر ) ، حيث ولد فيها الرجلان ( الشيخ عام 1946م وعبده عام 1948م ) .
نعى الشيخ صديقه وزميله ودفعته وبلدياته وقال في بيان صدر عقب إعلان الوفاة : ” بمزيدٍ من الرضا بقضاء الله وقدره ، ينعى فضيلة الإمام الأكبر أ . د أحمد الطيب ، شيخ الأزهر الشريف ، أخاه وصديقه وزميله في رحلة الدراسة وطلب العلم ، الأستاذ الدكتور عبده زايد ، أستاذ البلاغة بكليَّة اللغة العربية بجامعة الأزهر والجامعات العربية ، الذي وافته المنية صباح يوم السبت ( 13/1/2024م ) .
وذكر شيخ الأزهر أنَّه قد زامل الصديق الراحل منذ الطفولة وخروجهم من القرية نفسها للدِّراسة في المراحل التعليمية المختلفة ، انتهاءً بالدراسة في جامعة الأزهر ، فكان مثالاً في الأدب والأخلاق والعلم ، مخلصاً لأزهره طوال فترة عمله منذ أن كان معيداً وحتى تفرغه للبحث ، وأنَّ الصديق الراحل لم يدَّخر جُهداً في خدمة طلاب العلم والباحثين ، وكان خير ممثِّل للأزهر في المحافل العلميَّة والأكاديميَّة ، وستظل كتبه ومؤلفاته منهلاً خصباً للطلاب والباحثين في علوم اللغة العربية وآدابها .
ويتقدَّم فضيلة الإمام الأكبر أ . د أحمد الطيب ، شيخ الأزهر بخالص العزاء وصادق المواساة إلى أسرة الدكتور عبده زايد ، وإلى أسرة كلية اللغة العربيَّة بجامعة الأزهر ، وإلى أصدقائه وطلابه ، داعياً المولى عزَّ وجلَّ أن يتغمَّد الصديق الراحل بواسع رحمته ومغفرته ، وأن يجعل ما قدمه لأزهره وطلابه في ميزان حسناته شفيعاً له . . ” إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون ” .
الاسم الأصلي :
كما نعى عدد كبير من أساتذة وطلاب جامعة الأزهر الشريف باسمه الأصلي الأستاذ الدكتور أحمد محمد علي ، الشهير باسم عبده زايد .
ومن المفارقات التي رواها لي صديقي الشاعر المغربي الكبير حسن الأمراني أن الدكتور عبده زايد – رحمه الله – كان في ندوة ويجلس على المنصة وعليها اسم شهرته ( عبده زايد ) ، فإذا بأحد الحاضرين وكان يعلق على بحث قدمه الدكتور أحمد محمد على ، وانتقد البحث انتقاداً حاداً ، ولم يكن يعلم أن عبده زايد هو أحمد محمد علي ، فإذا بالجمهور الحاضر يفاجأ أن عبده زايد يضحك ولا يبدي غضباً ، فقد كان المعلق لا يعرف أن الرجل يحمل اسمين . ويتمتع بقدرة ملحوظة على التسامح واغتنام الفرصة للتصويب والتصحيح .
وأسماء الشهرة مسألة شائعة في البيئات الريفية ، فهم يحرصون على أن يكون الاسم النبوي الشريف ( محمد وأحمد ومصطفى وطه ، وعبد الله ونحوها ) أسماء لأبنائهم ، لأن بعض العائلات تسمي الأخوين محمداً ، ويلجأون إلى التمييز عن طريق أسماء الشهرة ( محمد الكبير ، محمد الصغير ، محمد أبو علي ، محمد أبو إبراهيم . . ) ، وكان حظ عبده زايد ، أن يشتهر باسم بعض أجداده ، ليعرف بين العائلة والقرية .
الأساتذة الراسخون :
لم تول الصحافة المصرية خبر رحيل عبده زايد ، كما تهتم ببعض الفئات مثل التي تنتمي إلى الكرة أو الفن ، وتظل تلح على أخبار وفياتهم على مدى أسابيع وشهور وسنوات ، حتى لو كانوا في منزلة متواضعة ، ولكن بعض المواقع نشرت على استحياء خبراً عن الراحل في الصفحة الدينية ، ووصفته أنه من الأساتذة الراسخين . . وأشارت إلى نعي الكليات والأساتذة والطلاب ، للمربي الفاضل والعالم الجليل ودعائهم له بالرحمة والغفران . ووصل ما انقطع من عمله بعلمه .
مثل معظم الأطفال في زمنه تعلم عبده زايد في كتاب القرية ، وحفظ القرآن الكريم وازداد تشبعاً بأسلوبه المعجز في دراسته بالأزهر الشريف ، حيث درس الحديث الشريف والتفسير والفقه والتوحيد والنحو والصرف والسيرة النبوية الشريفة والبلاغة والأدب العربي شعراً ونثراً ، وكلها علوم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالقرآن الكريم .
تخرج الراحل في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر ؛ حيث حصل على الليسانس ،ثم تابع دراسته العليا فحصل على درجة الدكتوراه من الكلية ذاتها ، وصار عضواً بهيئة تدريسها إلى يوم رحيله .
مجالان مهمان :
ويمكن متابعة نشاطه الفكري بعد التدريس بالجامعة في نقطتين أساسيتين ، هما : التأليف ، المجال الأدبي .
في النقطة الأولى لم يقدم كثيراً من المؤلفات ، ولكن الفكرة التي انشغل بها كانت مهمةً للغاية ، وهي فكرة الإعجاز القرآني من خلال نظرية النظم التي تحدث عنها الإمام عبد القاهر الجرجاني ، في كتابيه دلائل الإعجاز ، وأساس البلاغة ، وطبقها على بعض النصوص ، ومنها ما ورد في كتابه ( من أسرار البيان النبوي ، دار الصحوة ، القاهرة ، 1406هـ – 1985م ) ، وكتابه ( من أسرار النظم في القصص النبوي ، دار الصابوني ، دار الهداية للنشر والتوزيع ، القاهرة ، د . ت ) ، وهو تطبيق لنظرية النظم على بعض القصص التي وردت في الحديث الشريف ، ويظهر من خلالها أهمية المنهج اللغوي في فهم النصوص وتفسيرها ، وهو منهج يدافع عنه عبده زايد بقوة ، حيث يرى أن هناك من يسعى لإخضاع اللغة العربية لمناهج غريبة بعيدة عن خصائصها ، ويتجاهل منهج التحليل اللغوي الذي جسده عبد القاهر الجرجاني في نظرية النظم .
ويرى عبده زايد أن كثرة المناهج التي تتعامل مع النصوص الأدبية ، وبعد كثير منها عن مفتاح النص ، وهو لغته ، فكان لا بد من استعادة هذا المفتاح مكانة ومنزلة ، لتنفتح مغاليق النصوص وتكشف أسرارها الكامنة في أعماقها .
إن الدوران حول النص لا يغني عن الدخول إليه من بابه ومهما بلغت براعة من يدور حول النص ودقة ملاحظته ، فإنه سيظل بمنأى عن جوهر النص وحقيقته .
اتهام غير حقيقي :
إن البلاغة العربية متهمة بالقصور في كتابات المحدثين ، الذين لم يتعمقوا في الدرس البلاغي العربي ولم يوغلوا فيه ، ولا يعرفون من علوم العربية إلا شذرات وقشوراً ، وكثير منهم يقرأ عن هذه العلوم ، ويحكم عليها اتباعاً وتقليداً ، أكثر ممن يقرأ بعقل ووعي .
إن التراث اللغوي العربي يموج بالتيارات والاتجاهات ، وبدلاً من قراءة هذه الكتب ( الصفراء !! ) يتم الحكم عليها بالقصور والتخلف . كم واحداً من الذين يوجهون هذا الاتهام قرأ سيبويه وعبد القاهر وابن جني وابن الأثير ؟ كم واحداً قرأ الرماني والخطابي والباقلاني ؟ كم واحداً قرأ الآمدي وعبد العزيز الجرجاني ؟ كم واحداً قرأ كتاباً من أصول الفقه ابتداءً من الرسالة للإمام الشافعي ، مروراً بالمعتمد لأبي الحسين البصري ، والبرهان للجويني ، والمستصفى والمنخول للغزالي ، والأحكام في أصول الأحكام للآمدي والمحصول للرازي ؟ ولا حاجة هنا للسؤال عن علاقة هذه الكتب الأخيرة بعلوم اللغة والبلاغة . كم واحداً قرأ ، وكم واحداً من الذين قرأوا فَهِم وعَرَف ؟ ( من أسرار النظم في القصص النبوي ، ص 8 ) .
أدوات كشف :
إن اللغة ليست نظريات تحفظ ولا قوانين تستظهر ، ولكنها أدوات نستخدمها في تحليل النصوص وفهمها ونقدها ، والكشف عن خصائصها ، وإبراز مواطن الجمال والإبداع فيها ، وتمييز جيدها من رديئها .
اللغة ضرورة للوقوف على صحيح العقيدة ، وصحيح الحكم الشرعي أيضاً ، ومن لم يستطع أن يتملك مفتاح النص – وهو اللغة – فليس بقادر على تصحيح عقيدة أو استنباط حكم شرعي .
من أجل هذا كله يسعى عبده زايد إلى إحياء مناهج اللغة باقتحام عالم النصوص ، وهو ما فعله في كتابه عن أسرار النظم في الحديث النبوي ( السابق ، 9 ) .
لقد تناول في كتابه قصتين تحدث عنهما الرسول صلى الله عليه وسلم : الأولى قصة الثلاثة الذين ابتلاهم الله من بني إسرائيل : الأبرص والأقرع والأعمى ، فقام برواية القصة في البخاري ومسلم ، ثم تناولها بالتحليل والترتيب . ( السابق ، 15 – 18 ) .
ثم توقف عند قصة التوبة للرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً ، وسأل عن أعلم أهل الأرض ، وقدم الروايتين اللتين رواهما مسلم في صحيحه ، ثم رواية البخاري ، وتناولها بالتحليل والتعليق . ( 58 – 63 ) . ويخلص إلى نتائج اعتماداً على المنهج اللغوي .
الأدب الإسلامي :
المجال الثاني لنشاط عبده زايد هو الأدب أو الأدب الإسلامي تحديداً ، فقد كان عضواً فاعلاً في إدارة رابطة الأدب الإسلامي ، وخاصةً في فترة وجوده معاراً بالرياض إلى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، يحضر الندوات ويناقش الطروحات والأسئلة ، المتعلقة بالأدب الإسلامي سواءً في الرابطة أو مؤتمراتها أو الأندية الأدبية الأخرى ، كما تولى مسئولية تحرير مجلة الأدب الإسلامي واحداً من هيئة تحريرها ، ومشاركاً بالكتابة فيها ، وكانت له رؤى وتحليلات مهمة في توضيح طبيعة الأدب الإسلامي ، وعلاقته بالآداب الأخرى ، وأدلى برؤاه وتصوراته لعديد من الصحف والمواقع الإلكترونية .
واقع أدبي :
ومن ذلك مفهومه للأدب الإسلامي ، الذي ورد في حديثه إلى مجلة البيان ، شعبان 1420هـ أجراه معه علي الغريب ، قال فيه : ” . . الأدب الإسلامي كان موجوداً من حيث هو واقع أدبي ، منذ أن نزلت آية الشعراء ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ . أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ . وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) [ الشعراء : 224 – 227 ] ، الآية قبل الاستثناء تتحدث عن الشعراء من حيث هم ، والآية بعد الاستثناء تتحدث عن الفئة المستثناة ، وهي التي لا تدخل في سياق النوع الأول ، هي مشتركة مع الفئة الأولى في صفة الشاعرية لكن غاية شعر الفئة الأولى غير غاية الفئة الثانية ، والتصور الذي تنطلق منه الفئة الأولى غير التصور الذي تنطلق منه الفئة الثانية . فما جاء بعد الاستثناء يمثل مرحلة النجاة ، والشعراء من الصحابة خافوا من الآية حينما نزلت ، وذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون له : لقد أنزل الله هذه الآية وهو يعلم أنا شعراء ، فقال : اقرأوا ما بعدها ( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ) قال أنتم ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) قال أنتم ( وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ) قال أنتم . فهذه الفئة المستثناة لم تتحدث عن الشعر والشاعرية ، وإنما تحدثت عن التصور الذي ينطلق منه الشاعر وهو قضية الإيمان ؛ فهم ينطلقون من منطلق غير الذي كان ينطلق منه الذين هم قبل الاستثناء الذين هم في كل واد يهيمون ويقولون ما لا يفعلون . الكلام هنا لا يتحدث عن الشعر ، وإنما يتحدث عن التصور ، وهؤلاء ما سموا شعراء إسلاميين ، ولا سمي شعرهم شعراً إسلامياً ؛ لأنه لم تكن هناك ضرورة لوضع الأسماء في ذلك الوقت ، واستمر الحال على ذلك لا توضع له أسماء ، لماذا ؟ لأن قضية الأمة كانت كلها قضية الإسلام . . . ” .
رحم الله عبده زايد ، وجعل الجنة مثواه ، في رفقة النبيين والشهداء والصالحين .