أثر القرآن الكريم في تطوير النقد العربي القديم
ديسمبر 23, 2024أدب الرحلات :
رحلة إلى الأردن بين المقدسات والمعالم
( الحلقة الثالثة )
الأخ السيد عبد العلي الحسني الندوي *
ولم يوقظنا صباح يوم الأحد إلا نغمة أذان الفجر الرقيقة الرنينة المفعمة بالنشاط والحيوية ، وقد أزالت عنا زمزمةُ تكبيرات التوحيد المدوية المطهرة للعالم من أدران الشرك وأوساخ البدع والمعاصي ضغوطاتِ السفر الطويل ومتاعبَ التجوال المتواصل بدون توافر قسط من الاستراحة وفرصة لاسترخاء المفاصل ، وكنا مشمِّرين عن سواعدنا للتأهب لليوم الحافل في طياته زيارات جديدة ولقاءات مفاجئة ، فهجرنا الفراش تواً وقصدنا إلى مسجد قريب ، وصلينا الفجر وانصرفنا منه مباشرةً إلى محطة سيارات الأجرة ، وبينما كنا نبحث السيارات بأسعار مقبولة إذ اتصل بنا السائق الذي أنزلنا في فندق أمس ، وكان رجلاً متديناً متصلباً فيما يراه من الأحكام الدينية ، يعتبر زيارة الآثار والمعالم مما تشوبه المظنة وتعارض شرعه ومنهاجه لقصد الناس إليها للتفكه والتلذذ دون اكتساب العبر من أحوال السابقين ، وكان يتطلع أن نتفاوض مع أخيه لعقد صفقة بشأن رحلة اليوم ، فتحدثنا معه وتم الاتفاق دون تأجيل بأسعار ميسورة ، فجاء السائق في بضع دقائق وركبنا في سيارته على اسم الله وذكره ، وقرأنا أدعية السفر وجعلنا لنا ربنا جل وعلا في العياذ والجوار من كل سوء ومكروه .
محافظة مأدبا :
نحن الآن في طريقنا إلى منطقة ” مأدبا ” العريقة ، هذه المدينة تاريخية قديمة تقع في الجنوب الغربي من عاصمة المملكة على مسافة 33 كلومترا ، وكان في قديم الزمان تسمى ” مدينة فسيفساء ” وذاع صيتها آنذاك بهذا الاسم النادر الطريف لخريطة مشتهرة تكونت من مليوني قطعة فسيفساء – وهو فن وحرفة صناعة اللوحات التصويرية باستخدام القطع الصغيرة من المواد الصلبة المتنوعة مثل الحجارة والزجاج والأصداف وغيرها على الفراغات الأرضية والجدارية تارةً لمجرد التزيين والزخرفة وتارةً لعرض الحضارة والمدنية في شكل فني مبدع – تشتمل عليها ” أراضي فلسطين ” المحتلة والأردن وأرض ” شبه جزيرة سيناء ” في الشمال الشرقي من جمهورية مصر العربية التي يحدها البحر الأبيض المتوسط شمالاً وخليج السويس – التي كانت تسمى قديماً ” بحر القلزم ” – غرباً والبحر الأحمر جنوباً وخليج العقبة شرقاً إلى حدود الأردن وفلسطين المحتلة ، وتصممت مدينة القدس في وسط الخريطة التي تنصب في كنيسة رومانية أرذوكسية (Roman Orthodox Church ) ، وكانت الكنائس الأثرية والأديرة المسيحية والكاتدرئيات القديمة بمحافظة ” مأدبا ” في كثرة هائلة وتضاعف متزايد بالنسبة لمناطق المملكة الأخرى ، وربما يوجد عدد كبير من المسيحيين المواطنين في هذه المنطقة لهذا السبب بالرغم من عدم ترشح المقاعد المطروحة لهم في انتخابات البلديات وفق ما يتوخون مع أنه لم ينجح مسيحي في الدورة الانتخابية الأخيرة رغم تخصيص مقعد متنافس للمسيحيين ، علاوةً على ذلك ، تعد محافظة ” مأدبا ” رمزاً للتسامح بين المسلمين والمسيحيين منذ قرون طويلة ، حيث تمكن المسلمون من فتحها عام 637 من الميلاد في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ولم يكرهوا أحداً على تغيير دينه حيث استمر الكثير من سكان المدينة باعتناق المسيحية ، ومازالت مواقعهم الدينية ومعالمهم المقدسة من الكنائس والمعابد تشهد تعامل المسلمين معهم تعامل الأمن والأمان والحفظ والسلام عبر العصور المختلفة حتى طارت سمعة المنطقة في التعايش السلمي بين الأديان من أقصى العالم إلى أقصاه ، ومن ثم سميت المدينة ” مدينة الوئام بين الأديان ” .
صياغة مقام موسى كليم الله :
كنا نمر بسهول الخضراوات والفواكه والبساتين المثمرة للصنوبر والزيتون ، وبعد قليل أخذت السيارة تروح بنا على جدد الجبال الملتوية وانتهينا إلى وُجهتنا ، وهي قمة ” جبل نيبو ” مقام موسى عليه الصلاة والسلام في رمشة عين .
يقع ” جبل نيبو ” صياغة مقام موسى عليه الصلاة والسلام على مسافه أقل من 20 ميلاً من مدينة القدس المحتلة ، وكان النبي موسى عليه الصلاه والسلام حسب الروايات الإسرائيلية قضى آخر أيام حياته في هذا المكان المرموق المشهود له في التاريخ ، وتوفي ودفن فيه ، وجاء في التصريحات الإسرائيلية الأخرى أن موسى عليه الصلاة والسلام خاطب تجمُّع قومه على هذه القمة من جبل نيبو مطلاً على الأرض المقدسة المباركة حولها قائلاً كما جاء في القرآن الكريم : ( يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ) ، فما كان جواب قومه إلا أنهم ، ( قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ) بل قالوا مردفين بأبخس جرأة ووقاحة ( إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) . ومن الحسرة والأسى والعار علينا وعلى ولاتنا المسلمين عامة وحكام دول الشرق الأوسط بوجه خاص بأنهم يستندون إلى نفس الأعذار الواهية التافهة من تقلص العدة والعتاد لِما سرى فيهم الجبن والوهن والعجز والتخاذل عن المقاومة والتصدي والجهاد في سبيل الله للحفاظ على الأرض المقدسة التي بارك الله حولها ويخيبون آمال الملايين من الذين يُضطهدون ويُستبدون على أيدي الصهاينة الغاشمين المحتلين المتوغلين في أرض فلسطين التي مازالت في انتظار أن يبرز على مطلعها صلاح الدين الآخر– لا الأخير – الذي يقشعر لآنات المسلمين وآهات المستضعفين ويهتز بها ضميره ولا يتزعزع في رد كيد الأعداء إلى نحورهم ، مازالت رقعة هذه الأرض المقهورة في انتظار جماعات من آفاق الكون يعشقون المسجد الأقصى والمشروع الفلسطيني الخالص ، ولا يتقهقرون عن تقديم تضحيات سامية جبارة في تحرير الأرض المباركة من أيدي الصهاينة الطغاة الغاشمين مثل جماعة مقاومة حماسية باسلة تتصدى على جبهة قطاع غزة العزيزة على قدم وساق ، مازالت الأرض الموعودة المباركة في انتظار أن تزود الحكومات المسلمة بكل ما تمس إليه الحاجة من أسلحة إيمانية ومادية ، وتعود إلى الاعتزاز بالإيمان والثقة بالأنفس وتناصر بعضها بعضاً في تحقيق هذا الهدف النبيل ، إنها مازالت في انتظار أن تهب الرياح الإيمانية القوية التي تقلع الأعداء الألداء من جذورهم ، وأن ينبلج الصبح المشرق والفجر الساطع بعد ظلمات الليل القاتمة المديدة ، فكانت قلوبنا متجشمةً ووجوهنا مكفهرةً من الفظائع المروعة والأزمات الفتاكة واحدةً تلو أخرى ، إذ طلعنا على ” جبل نيبو ” الذي يعلو عن سطح الأرض بنحو ست مائة وثمانين متراً ، ويستطيع أي شخص عند التسلق إلى قمته الإطلال على وادي الأردن والبحر الميت والأراضي الفلسطينية المحتلة التي تبعد منها حوالي 20 ميلاً ، وربما تلوح من فوقها مدينة القدس المحتلة وقبة الصخرة للمسجد الأقصى أيضاً إذا كان الجو صحواً ، ولكن لم نكد نتمكن من مشاهدتها لجو كثيف ذاك اليوم ، هذا المقام التاريخي هو وقف مسيحي يُعتبر مقدساً عند اليهود والمسيحيين كما ذكرت كلمة ” نيبو ” في سفر تثنية الاشتراع في التوراة عند اليهود وفي العهد القديم عند المسيحيين ، ويزعم بعض المؤرخين من المسلمين أنه هو ” الكثيب الأحمر ” الذي مرَّ به نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه في رحلة الإسراء كما جاء في الحديث : ” أتيت على موسى ليلة أُسرِيَ بي عند الكثيب الأحمر ، وهو قائم يصلي في قبره ” .
فلهذه المعتقدات والتفاصيل يعد هذا المكان محترماً عند الديانات السماوية كلها ، ولكن تم بناء مجمع من الكنائس حوله لكونه وقفاً مسيحياً ومعبداً كبيراً على مقام موسى المزعوم عليه الصلاة والسلام ونُصب صليبٌ على شفا جرف الجبل كعلامة مسيحية .
ههنا نطل على أرض القدس المباركة المحتلة ( أعادها الله للإسلام والمسلمين ) ونراها عياناً لأول مرة في حياتنا ، وكنا على بعد أميال ولم يُسمح لنا بالدخول فيها مع أن العواطف المتدفقة تفضينا إليها ركعاً وسجداً ، والخواطر المكلومة تلتهب ولا تلتام إلا بالنزول فيها فاتحين ومنتصرين والأفئدة المترفرفة تطير بنا إليها على أجنحة الجنان والشوق ، فألقينا نظرةً عابرةً حزينةً مؤلمةً على ثغور فلسطين وتولينا منها مكتوفي الأيدي ومستضعفين .
جيراش وعجلون :
توجهنا الآن بقلوب مثقلة إلى مدينة جيراش التي تقع في الجزء الشمالي الغربي من العاصمة ، وترتفع من سطح البحر قرابة 600 متر ، كانت المدينة بلغت أوج ازدهارها في حقبة الرومان في بداية القرن الثالث الميلادي ، مع أن علماء الأثريات عثروا على أنقاض لمستوطنات قديمة حجرية باقية يعود تاريخها إلى العصر الحجري الحديث بما يدل على الاستيطان البشري في هذا الموقع بقدامة أكثر من 7500 سنة ، وصلنا مباشرةً إلى المدينة الرومانية القديمة المحاطة بالأسوار التي تعتبر من أكثر مواقع العمارة الرومانية وأقدمها في العالم ، ومازالت الشوارع الحجرية والحمامات والمسارح والساحات العامة وأقواس المباني الضخمة في حالة استثنائية داخل أسوار المدينة الأثرية فدخلنا فيها وشاهدنا مآثر الحضارة الرومانية القديمة بنظرة سريعة فاحصة ، ولم نتمكن من سياحة المواقع المخصصة لتذاكر باهظة وأسعار غالية ، وتقدمنا إلى سلسلة الجبال المرتفعة وارفة الخضرة المعروفة بجبال ” عجلون ” .
عجلون :
منطقة ” عجلون ” تتميز في المملكة بعدد من عوامل الجذب الرئيسية من محطات جبلية أنيقة وتضاريس ساحرة خلابة وطقس شتوي صبيح ومحمية غابات كثيفة ومواقع أثرية تاريخية من الجوامع والقصور والكنائس والمسارح ، فكنا نمر في سيارتنا بأجمل الطرق المتعرجة وتغشانا الغيوم الملبدة النعيمة ، وتلمسنا همسات النسيم الجوية ونسمات الهواء الباردة التي تهب من خلال غابات كثيفة للزباب والسنديان والصنوبر وبساتين الزيتون وكروم العنب والتين ، وكنا نتجه إلى جبل ” عوف ” الذي شيدت على قمته قلعة عجلون الأسطورية التي مازالت رمزاً أنيقاً لشوكة الإسلام ومنعتهم في هذه البقعة العريقة الإسلامية من عهد السلطنة الأيوبية ، وهذه القلعة أعجوبة من الأعاجيب لمحل وقوعها وجودة تشييدها وحسن تنسيقها ، وكانت بمنزلة الحصن المنيع لمعسكر صلاح الدين الأيوبي ، قام ببنائها عز الدين أسامة قائد من قادة جيشه ، وكان ابن أخيه سنة 580 من الهجرة المصادف 1184 من الميلاد للإشراف على الأراضي الفلسطينية والحفاظ عليها من توغل الصليبيين المقتحمين وانتهاكاتهم الشِّريرة الدامية وتحمي القلعةُ المعابرَ الرئيسية من أودية كفرنجه وراجب وريان والطرق التجارية وخطوط المواصلات بين الحجاز وبلاد الشام ، فصعدنا إليها ودخلنا فيها من جسر متحرك كان يُرفع في حالات الحرب ويُعاد في السلم على خندق يحيط بالقلعة ويعتبر خط الدفاع الأول وهناك نصبت النوافذ في جميع أطراف أسوار القلعة لإطلاق السهام وإسقاط الزيت الحارق والماء المغلي عند محاولة الاقتحام من قِبل الأعداء ، وكانت عناصر القلعة المعمارية كلها ذات الطابع الإسلامي الأصيل من الأقواس والدهاليز والبوابات التي أضيف عليها الصبغة العسكرية ، ولها أربع طوابق يمكن الإطلال والمراقبة من فوقها على تلال القدس المحتلة والحراسة على ثغور المملكة الأردنية ، وتكثر في داخل القلعة ممرات ضيقة تنتهي في القاعات الفسيحة التي تحفظ فيها الأسلحة الأيوبية والأدوات والأواني القديمة ، ومن ميزات القلعة التي أعجبتني كثيراً كان النظام المائي الداخلي في القلعة حيث يوجد فيها عديد من الآبار المحفورة والقنوات المتسعة الطويلة التي تنساب فيها الماء الصافي إلى جميع نواحي القلعة ، أمضينا في القلعة ساعةً أو أكثر ، ثم انصرفنا منها فخورين بتاريخنا الماضي وتراثنا القديم ، مكدودين على تحديات حاضرنا المصيرية والوجودية ، ومقلقين بشأن تهديدات مستقبلنا الوافدة ولم نزل نحلم أحلاماً بعيدةً على سرير التخبط والتعطل ، ونضيع أوقاتنا القيمة في أفكار سخيفة تذهب سدىً ولا تجدي بنا نفعاً .
( للحديث بقية )
* نجل الشيخ السيد بلال عبد الحي الحسني الندوي .