الاستبداد والحراك الشعبي ورهاب الإسلام : قضايا الربيع العربي في الرواية العربيّة المعاصرة
مارس 15, 2022زجاجة المصابيح : بين المنهج والميزات
أبريل 20, 2022دراسات وأبحاث :
حماية اللغة العربية بين الشعارات والتطبيق
الدكتور حسن الحضري *
تكمن قيمة اللغة في تصدُّرِها وسائل التخاطب الأخرى على اختلافها وتعدُّدِها ، والأمَّة الحريصة على هويَّتها تحافظ على سلامة لغتها ، وتعمل على نشرِها قدر استطاعتها ؛ لأنها تمثِّل اللسان الناطق باسم حضارتها ، المعبِّر عن ذاتيَّتها ، ولغتنا العربية لها الصدارة بين اللغات ؛ فهي لغة القرآن الكريم ، ولفظ ” العربية ” في حد ذاته يعني التَّبيين ، يقال : ” أَعْرَبَ الكلامَ : بيَّنه ” [1] ، والله تعالى يقول : ( بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) [ الشعراء : 195 ] ، فاسمها هو عيْنُ صفتها ، فهو يوحي بأنها هي اللغة الوحيدة المتفرِّدة عن غيرها من اللغات بحُسن البيان ، وجمال الصورة التعبيرية ، وسعة ألفاظها لِدَلالاتٍ اختُصَّت بها ؛ ومفرداتها المترادفة – على كثرتها – تتفرَّد كل مفردةٍ منها بما ليس في سواها .
والله تعالى قد أنزل القرآن الكريم على أهل لغة القرآن ، ولم ينزله على أهل كتابين معاصرين لهم ، فأهل اللغة هم الذين حملوا القرآن الكريم ، وهم الذين فسَّروه ، وهم الذين نقلوا إلينا تراث أجدادنا من شعر ونثر ، وهم الذين حرصوا على حفظ لغتنا من الضياع ، وساعدهم على ذلك القرآن الكريم ، الناطق بهذه اللغة الفريدة ، الباقي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
وحين بدت بوادر اللحن عند العرب ؛ وضع علي بن أبي طالب [ ت : 40هـ ] رضي الله عنه النحو ، وعنه أخذه أبو الأسود الدؤلي [ ت : 69هـ ] ؛ ليستعين به الناس في إقامة لسانهم [2] ، ورُوِيَ أنه ” قيل لعبد الملك [ ت : 86هـ ] : أسرع إليك الشيب ؛ فقال : شيَّبني ارتقاء المنابر وخوف اللحن ” [3] .
وروى البيهقي [ ت : 458هـ ] : ” مرَّ الأصمعي [ ت : 216هـ ] برجلٍ يدعو ويقول في دعائه : يا ذو الجلال والإكرام ؛ فقال له الأصمعي : يا هذا ؛ ما اسمك ؟ فقال : ليث ؛ فقال الأصمعي :
يُناجِي ربَّه باللَّحنِ ليثٌ لذاكَ إذا دَعاه لا يُجيبُ [4]
فقضية اللحن في اللغة ، وفساد الكلام وخروجه عن معناه ؛ ليست بجديدة ، لكنها كانت في العصور السابقة شيئاً نزراً لا يكاد يُذكر ، وكان علماء اللغة يتولون ردَّ الألسن إلى الصواب ، بخلاف هذا العصر الذي نعيشه الآن ؛ حيث أصبحت السمة العامة فساد اللسان وشيوع اللحن ، وإهدار العربية بين أناس نسوا أو تناسوا أمجاد عربيتهم .
ومن المؤسف أن بعض من يعملون في حقل الأدب ، أو في علوم القرآن والحديث ، أو في مجال البحث والتحقيق العلمي ؛ ليس لديهم القدر الكافي من اللغة ، فإذا مرَّت بهم آية أو حديث وحاولوا الاجتهاد في تفسيره ؛ أخطؤوا ، فضلُّوا وأضلُّوا ، وإذا مرَّ بهم بيتٌ من الشعر ؛ لم يقيموا وزنه ولا لغته ، أو يحسنوا تفسيره ، وكأنهم لا يعلمون أن كل هذه العلوم أساسها اللغة ، ولا يجيدها إلا من يجيد اللغة ؛ فاللغة هي مفتاح العلوم ، ولا عِلم لمن لا لغة له ، رُوِيَ عن أبي الدرداء [ ت : 32هـ ] رضي الله عنه قال : سمع النبي صلى الله عليه وسلَّم رجلاً قرأ فلحن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم : ” أرشِدوا أخاكم ” [5] .
والعلاقة بين اللغة وبين آدابها علاقة تلازمية ذات تأثير متبادَل ؛ فإذا ضَعُفَ قومٌ عن فَهمِ لغتهم ؛ ضعفت آدابهم ؛ وإذا جرَّد قومٌ آدابهم من ثوابتها ؛ لم تبقَ لهم لغة يحافظون عليها ، فكل تفريط يقود إلى تفريط مثله ، وأما المجامع اللغوية المنتشرة في أنحاء بلداننا العربية فدورها غير مفعَّل ، ولو كان دورها مفعَّلاً لقضت على ظواهر كثيرة في مهدها ، ولكن انحصر دورها في المناقشات النظرية وإصدار الفتاوى اللغوية ، داخل مقارِّها .
ومن الملاحَظ أن أخطاء اللغة ، والجهل بمدلولات ألفاظها ، وسوء التعامل معها ؛ ليس قاصراً على عربيَّتنا الفصحى ؛ فاللهجات العامية المحلية تنتشر فيها هذه المثالب – على اختلاف المستوى العلمي والثقافي للناطقين بها – فبعضهم يريد أن يَمدح فيَذُم ، أو يريد أن يهوِّل من أمرٍ فيأتي بألفاظ التهوين ، وكم من مصطلحات يستخدمها كثير من الناس في غير بابها ، أو في ضدِّ ما وُضِعتْ له !! وفي هذا دليل على أن القدرات اللغوية ترتبط بالذكاء والموهبة بجانب النشأة والتَّعلُّم .
ولا شك أن ذلك العبث ، له أثره الواضح في المزيد من تدهور حال العربية ، ويمثِّل مزيداً من الجناية عليها ، فاللغة لها قواعدها ، وآداب اللغة لها معاييرها ، وتحقيق المراد من إحياء الفصحى يتطلب تعاون المؤسسات المسؤولة ؛ فمؤسسات التعليم يجب أن تعيد النظر في مناهجها وفي طريقة إعداد معلميها ، ومؤسسات الإعلام يجب أن تدرِّب مذيعيها على إتقان الفصحى والتحدث بها بطريقة صحيحة ، وكذلك الخطباء على المنابر يجب أن يعاد تأهيلهم بما يناسب عملهم ، وكذلك كل من تجعله طبيعة عمله عرضة لإلقاء خطبة أو محاضرة بالعربية فعليه أن يتقن قواعدها جيداً .
وقد تناول قضية إحياء الفصحى كثير من الناس ، وأطلقت بعض المؤسسات الرسمية في بعض الدول العربية هذه الدعوة ، لكن كشف الواقع عن عدم جدية معظم تلك المؤسسات ، أو عدم قدرتها على القيام بهذا الأمر ، ومن المضحك المبكي أنَّ بعض من يتكلمون عن العربية وما آلت إليه من واقعٍ لا يليق بها ؛ هم أنفسهم من مكوِّنات ذلك الواقع المؤسف ؛ بما يقترفون من جرائم في حق لغتنا العربية ، فهم ينادون بإحياء الفصحى دون أن يطبقوا ذلك على أنفسهم ، وفاقد الشيئ لا يعطيه كما يقال ، فكيف يكون هؤلاء قدوة للعامة الذين يوجِّهون إليهم دعوتهم ؟!
أما قديماً فكانوا يستحيون من اللحن ويهذبون ألسنتهم من الوقوع فيه ، رُوِيَ ” أن عبد العزيز بن مروان [ ت : 85هـ ] كان يلحن ، حتى دخل عليه رجل يشكو خَتَنَه – وهو زوج ابنته – فقال له عبد العزيز : من خَتَنَك ؟ [ بفتح النون ] ، فقال الرجل : ختنني الخاتن الذي يختن الناس ، فقال لكاتبه : ويحك ، بماذا أجابني ؟! فقال الكاتب : يا أمير المؤمنين ؛ كان ينبغي أن تقول : مَن خَتَنُك ؟ بضمِّ النون ، فآلى على نفسه أن لا يخرج من منزله حتى يتعلم العربية ، فمكث جمعةً واحدةً فتعلمها فخرج وهو من أفصح الناس ، وكان بعد ذلك يجزل عطاء من يعرب كلامه ، وينقص عطاء من يلحن فيه [6] .
* عضو اتحاد كتاب مصر .
[1] المحكم والمحيط الأعظم ، لابن سيده ( 2/126 ) ، تحقيق : عبد الحميد هنداوي ، طبعة : دار الكتب العلمية ، بيروت ، الطبعة الأولى 1421هـ – 2000م .
[2] انظر نزهة الألباء في طبقات الأدباء ، لكمال الدين الأنباري ، ص 21 – 22 ) ، تحقيق : إبراهيم السامرائي ، طبعة : مكتبة المنار ، الزرقاء ، الأردن ، الطبعة الثالثة 1405هـ – 1985م .
[3] الكامل في التاريخ ، لابن الأثير ( 3/533 ) ، تحقيق : عمر عبد السلام تدمري ، طبعة : دار الكتاب العربي ، بيروت ، لبنان ، الطبعة الأولى 1417هـ – 1997م .
[4] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان ( 3/215/1565 ) ، تحقيق : الدكتور عبد العلي عبد الحميد حامد ، طبعة : مكتبة الرشد للنشر والتوزيع بالرياض ، بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند ، الطبعة الأولى 1423هـ – 2003م ؛ والبيت من الوافر .
[5] أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين ( 2/477/3643 ) ، تحقيق : مصطفى عبد القادر عطا ، طبعة : دار الكتب العلمية – بيروت ، الطبعة الأولى 1411م – 1990م .
[6] انظر البداية والنهاية ، لابن كثير ( 9/70 ) ، تحقيق : علي شيري ، طبعة : دار إحياء التراث العربي ، الطبعة الأولى 1408هـ – 1988م .