48/ سنةً في ظلال تربية الإمام العلامة أبي الحسن الندوي ( الحلقة الخامسة )
يوليو 11, 2022الإمام علاء الدين علي بن أحمد الشافعي المهائمي : حياته وخدماته
أغسطس 28, 2022رجال من التاريخ :
اللواء الركن / محمود شيت خطاب
قائد عظيم ووزير مخلص وكاتب بارع ومؤرخ عسكري حصيف
الدكتور غريب جمعة – جمهورية مصر العربية
( الحلقة الثانية )
نشأته ودراسته وشيئ من حياته العلمية :
ولد بمدينة الموصل عام 1919م في أسرة تعمل بالتجارة ، ونظراً لأن والدته رزقت بأخ له بعد عام من مولده ، فقد تولت جدته لوالده حضانته ورعايته ، وكان لهذه الجدة الصالحة الفضل في تربيته تربيةً إسلاميةً ، حيث كانت تأخذه معها إلى المسجد لصلاة المغرب ، ويبقى معها حتى صلاة العشاء ثم تعود به إلى البيت ، واستمرت في رعايتها له حتى انتقلت إلى جوار ربها ، وكان قد بلغ السادسة عشرة من عمره . وقد نظم قصيدةً في رثائها فيما بعد جاء فيها :
أجهدت نفسك فاسترحت قليلاً قد كان عبئك في الحياة ثقيلاً
نزلت عليك مصائب الــدنيا ولو نـــــزلــت على جــبــل لـخـرَّ مهيلاً
وجد القنوط إلى الرجال سبيله وإليك لم يجد الـــقـــنوط سبيلاً
ولرب فــــرد في ســــمــــــو فــعاله وعـــــلـــــوه خــلــقا يعادل جـــيــــلاً
ونكرر التنبيه على الدور الخطير للحاضنة والمربية في حياة الطفل فيما بعد حتى يراجع الإخوة الذين يستعينون بالمربيات الأجنبيات أنفسهم في ذلك . أدخله والده الكتّاب فتعلم فيه تجويد القرآن وتلاوته وحفظ وتعلم فيه الخط ومبادئ الإسلام ثم التحق بالمدرسة الابتدائية حينما بلغ الثامنة من عمره .
وكان يصحب والده إلى مجالسه ، حيث يجتمع الكبار ، ويتحدثون في موضوعات شتى ويتدارسون مشكلات المحيطين بهم وحل بعض المعضلات ويناقشون ما يسمعون من الأخبار . وكان والده يكلفه بقراءة أحد كتب التاريخ على الحاضرين ، ولعل ذلك كان من أسباب حبه للتاريخ دون بقية العلوم والكتابة فيه . أتم مراحل التعليم الثلاث بالموصل وهي الابتدائية والمتوسطة والثانوية ثم التحق بالكلية العسكرية عام 1937م وتخرج فيها برتبة ملازم في سلاح الفرسان وقد سأله آمر السرية في ذلك الوقت :
أتشرب الخمر ؟ أتلعب القمار ؟ أتحب النساء ؟ ولما أجاب بالنفي قال آمر السرية : إن انضمامك إلى سريتي نكبة عليّ !! ثم يوضح الأمر بجلاء ، فيقول – رحمه الله – : بعد تخرجي ضابطاً عام 1941م كان من تقاليد الجيش أن تؤلم وليمة للضباط الجدد وشهدت الحفل مع زملائي ، فجاء قائد الكتيبة وقد ملأ كأساً من الخمر وأمرني أن أبدأ حياتي بشرب الخمر ، وكان الليل قد أرخى سدوله ، وكانت السماء صافيةً تتلألأ فيها النجوم ، وكان قائد الكتيبة برتبة عقيد يحمل على كتفيه رتبته العسكرية وهي بحساب النجوم اثنتا عشرة نجمة فقلت له :
” إني أطيعك في أوامرك العسكرية وأطيع الله في أوامره ، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، إنك تحمل على كتفيك اثنتي عشرة نجمة فانظر إلى سماء الله لترى كم تحمل من نجوم . فبهت القائد وردد . . . السماء . . . السماء . . . نجوم السماء ، ومضى غضبان أسفاً وشعرت بأن موقفي هذا ليس مطاولةً بيني وبين القائد ، ولكنها مباراة بين إرادة بشر وبين إرادة خالق البشر ” . ثم استكمل دراسته العسكرية وتم ابتعاثه إلى دورة في بريطانيا مدة عامين وعند التخرج كان ترتيبه الأول على مأة ضابط من جيوش العالم المختلفة ، وكان من بين أساتذته المارشال ” مونتجمري ” بطل معركة العلمين بمصر ، حيث هزم فيها الإيطاليين هزيمة منكرة جعلت ميزان القوى في الحرب العالمية الثانية يميل لصالح الحلفاء . ثم تدرَّج في مناصبه حتى وصل إلى رتبة لواء أركان حرب ، ويحكي بعض ما حدث له في هذه البعثة فيقول : ” لما ذهبت للدراسة في الكلية العسكرية بلندن سألني عميد الكلية : لماذا قدمت ؟ قلت : قدمت لتجديد معلوماتي العسكرية ولتلقي أي جديد في العالم ، فعقب العميد على كلامي : بل قدمت لتتعلم مغازلة الفتيات . فكظمت غيظي وقلت في نفسي : إن هذا وأمثاله لا يلقون كلامهم جزافاً وإن هذا يحكم عليّ بما شاهده في سواي ” .
ولما ذهبت إلى السكن المخصص لي وجدت فتاةً تعمل على ترتيب غرفة نومي فانتظرت في البهو من دون أن أعيرها اهتماماً حتى إذا خرجت سألتني : هل لديك توجيهات ؟ فقلت : شيئ واحد ، هو أن تحضري لأداء مهمتك عندما لا أكون حاضراً .
لم يكن الرجل وهو ضابط بالجيش العراقي يعيش في إطار وظيفته بمعزل عن الأحداث التي تدور من حوله ، ولكنه شارك في ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941م وأصابته قنابل الإنجليز بشظاياها ، ولكن الله كتب له الشفاء على الرغم من شكوك الأطباء في ذلك . كما اشترك في حرب فلسطين كواحد من قوات الجيش العراقي واستطاعت قواته بقيادته أن تسترد مدينة ( جنين ) في المعركة الكبيرة التي عرفت باسمها بعد أن استولت عليها العصابات اليهودية ، وقد نظم شعراً بهذه المناسبة جاء فيه :
هذي قبور الــخالدين وقد قضوا شهداء حتى ينقذوا الأوطانا
الـــمــخلــصـون تـسربلوا بقبورهم والخائنون تسنموا الـــبـــنـيـانا
لا تـــعــذلــــوا جـيش العراق وأهله بلواكمُ ليست ســــوى بــلـوانا
أ( جنينُ ) يا بلدَ الكرام تجلدي ما ضـــاع حــق ضـرجته دمـاناً
إني لأشهد أن أهــــــلـــك قـــاومـوا غزو اليهود وصاولوا العدوانا
فإذا نــــكــبت فلست أول صارم بهظته أعباء الــــجـــهاد فلاناً
مرجُ ابن عـــامـــر خـضَّبته دماؤنا أيصير ملكا لليهود مــــهـــاناً
إن الـــخــــلـــود لمن يموت مجاهدا ليس الخلودُ لمن يعيش جـباناً
ثم عاد الرجل مع قواته إلى العراق بعد حلول الهدنة التي كانت وبالاً على العرب ، حيث التقط اليهود أنفاسهم واستعادوا قوتهم ، فكانت الكارثة الكبرى بضياع فلسطين مما يعرفه الجميع . وشارك في ثورة 1958م وتبوأ أرقى المناصب العسكرية والسياسية قائداً مهيباً ، ووزيراً مخلصاً ، ثم كانت ثورة الموصل على عبد الكريم قاسم بقيادة عبد الوهاب الشواف وقد شارك فيها أيضاً ، ولكن الشيوعيين قعدوا له كل مرصد حتى تم اعتقاله ، ومكث بالمعتقل ثمانية عشر شهراً ذاق فيها ألواناً من التعذيب الشديد وأصابته كسور كثيرة وتحمل آلامه صابراً محتسباً ، وكذا تظهر الشدائد معادن الرجال وتبرز المحنُ إخلاصَ المجاهدين ابتغاء وجه الله تعالى .