مخاطر التشبث بالأيدلوجية

وجهان لعُملة واحدة
فبراير 7, 2022
أهلاً برؤية 2030 … ولكن باحترام أرض الحرم
مارس 15, 2022
وجهان لعُملة واحدة
فبراير 7, 2022
أهلاً برؤية 2030 … ولكن باحترام أرض الحرم
مارس 15, 2022

نظرات معاصرة :

مخاطر التشبث بالأيدلوجية

بقلم : السيد حامد الأنصاري

( نائب رئيس جمهورية الهند سابقاً )

ترجمة : الأستاذ منور نينار

إن من يتابع المشهد السياسي السائد في الهند الآن يرى أن جُلَّ اهتمام الناخبين هنا ينصب على ترسيخ الحكم الحالي بغض النظر عن غلاء المعيشة وقضايا القوت اليومي .

تحدث في كل مجتمع تغيرات وتحولات في الاتجاهات السياسية من المألوف إلى غير المألوف ، مثلما هو الحال في الموضات في عالم   الأزياء ، وهذه ظاهرة طبيعية ، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا الصدد هو : متى تتحول هذه الظاهرة إلى أيدلوجية ؟ وما الذي يدفع الفرد العادي إلى الانخراط وراء تلك الأيدلوحية ؟

إن الأيدلوجية أياً كانت تستهدف تقديم نظرة جديدة نحو الأوضاع السائدة في العالم بل تسعى أحياناً إلى تغييرها ، ويسميها البعض بعلم الأفكار الذي يبين مضار التعصب ومحاسن التكاتف على مبدء واحد يؤكد على إقامة العدل بكونها اللبنة الأساسية لأي نظام .

وحاول جمهور المفكرين توضيح هذا الأمر بأسلوب استقرائي أو استنتاجي أي بمنطق العقل أو بالدلائل من واقع الحال ، وإن تعذر ذلك فيفسرون ما يحدث بأنها خارجة عن إرادة البشر أو ناتجة عن الإرادة الإلهية .

ومهما كان الأمر فإن الغرض هو تحقيق العدل وصون الحقوق وإثبات التعايش بين مختلف الناس في مجتمع واحد ، وعلى هذا الأساس شاع القول المأثور بأن إقامة العدل هي رأس القوانين للنظم البشرية جمعاء ، ونجد دليلاً على ذلك في نظم القوانين التي كانت سائدةً في العصور القديمة في الصين والعراق والهند وغيرها من البلاد ، علماً بأن هذه النظم مع مر العصور أخذت طابعاً دينياً وأصبحت عقيدةً ثابتةً واعتبرت أعلى المثل وأوج الأخلاق السامية التي يجب على الناس اتباعها في حياتهم .

وعلى كل حال فإن الهدف الأساسي هو تنظيم الأمور وضبط سلوك الناس في كل مجتمع ، غير أن الفرد العادي في مجتمع يتكون من مختلف العقائد أصبح يطبق هذا المبدأ بدون وعي وإدراك ، ولم يفهم كنه المعنى لهذه القوانين لأنه منشغل بمشاكل حياته اليومية أو ليس عنده الوعي الكافي لاستبيان الأمر أو لكلا السببين معاً ، فأخذ يبالغ في العمل بهذه القوانين ويعتبرها واجباً مقدساً وبالتالي جاز له فرض العقوبة لمن لم يسلم بها أي بعبارة أخرى أخذ يعمل بمبدء ( العصا لمن عصى ) !

البحث عن فرض نظام موحد :

كانت السمة البارزة للنشاط السياسي في القرنين التاسع عشر والعشرين هي السعي لتغيير الأوضاع لصالح عامة الشعب ، ومن هذا المنطلق قال كارل ماكس : إن الفلاسفة اكتفوا بتفسير ما يحدث في العالم من وجهات نظر مختلفة ، ولكن ما تطرقوا لسبل تغيير الواقع ، كان تعليقه هذا انتقاداً للفيلسوف الألماني الإلحادي ” لودويغ فويرباخ ” الذي اشتهر بمواقفه المعادية للديانة المسيحية .

وشهد القرن العشرون ازدياداً في مثل هؤلاء الناس ، كل يدعو إلى نظام اجتماعي معين في إطار من يخاطبه ومن منظور محلي إلى منظور عالمي  كما يلاحظ  وجود نزعة شيطانية لبث البغض والحقد نحو طائفة معينة أو عنصر معين مع الـتأكيد على ضرورة التخلص من طغيان هذه الطائفة ، وعلى هذا الأساس ظهر الحزب الشيوعي برؤية إقامة مجتمع متحرر من الفوارق الطبقية يُضمن فيه لكل فرد توفير ما يحتاج إليه في حياته ، ولقيت هذه النزعة قبولاً كبيراً لدى الجماهير المتعطشة لعيشة كريمة ، وحدث ما يشبه ذلك من حركات فوضوية في النقابات العمالية في أوربا وظهر في ألمانيا وإيطاليا تيار سياسي وفكري من أقصى اليمين ، له نزعة قومية عنصرية تُمجّد الدولة إلى حدّ التقديس ، ويرفض نموذج الدولة الذي ساد أوروبا منذ أواخر القرن التاسع عشر القائم على الليبرالية التقليدية والديمقراطية البرلمانية التعددية ؛ ووجدت هذه التيارات مقلدين لها في الدول التي كانت تحت نير الاستعمار مثل الهند والصين وفي بعض أطراف غرب آسيا ، وقد وصف المؤرخ البريطاني الماركسي إريك هوبسسباوم هذه الظاهرة بأنها وجوه مختلفة للاشتراكية المتطرفة الساعية إلى تطبيق مبادئها بلاهوادة .

الاستقلال من حكم الاستعمار والأفكار الطائفية :

عندما بدأت في الهند حركة الاستقلال من حكم الاستعمار نشأت معها نزعات طائفية ذات طابع سياسي متأصل لدى فئة معينة من أفراد المجتمع ، وذلك في نهاية القرن التاسع عشر ، وقد ظهر من بين الهندوسيين والمسلمين من يعارض الزعيم مهاتما غاندي واتباعه وقالوا : إنهم ينتمون إلى ” أمم مختلفة ” وشاءت الظروف أن يتحقق ذلك في أرض الواقع بالخطة التي أعدها اللورد مونتباتن ( آخر حاكم بريطاني على الهند ) ونتجت عنها أحداث دامية .

لقد شهدت الأعوام الثلاثون الماضية تغلغل المبادئ السياسية لحزب بهارتيا جنتا في أذهان الناس بمنتهى السهولة وبحيل مختلفة مدروسة ؛ وقد ظهرت من الإحصاءات عن الانتخابات في العقود الأخيرة وجود انحياز عدد ملحوظ من الأصوات لصالح هذا الحزب مما يؤكد على أن فئات من الشعب تؤيد ما ينادي به هذا الحزب ويعيده مراراً وتكراراً كلما سنحت له فرصة بأنه يمثل هوية هندية خالصة لا تشوبها شوائب من الزردشتية واليهودية والنصرانية والإسلام مع الإصرار على التأكيد بأن هويتها لا تمت بأي صلة بالنصرانية والإسلام .

وجاز لنا في هذا الصدد أن نتساءل كيف ولماذا حظيت مسألة الهوية مثل هذه الأهمية والأولوية القصوى لدى جمهور الناخبين بدلاً من معالجة المشاكل الاقتصادية وضمان لقمة العيش للفرد العادي ؟ وقد تبين من نتائج الانتخابات التي جرت في ولايات هريانا وجاركند وكرناتكا ودلهي وغيرها في عام 2014 وعام 2019 أن هذا الحزب فاز بتأييد أكثر من خمسين في المأة من الأصوات ، ويرى المحللون السياسيون أن هذا يرجع إلى التطبيق الناجح بمختلف وسائل الإعلام لقضية الهوية كما يرجع إلى التأكيد في كل مناسبة أن السواد الأعظم من الجمهور الذي كان مغمور الشأن يجب أن يظهر ويثبت أن زمام الأمور لهم لا لغيرهم .

وفي خضم هذه التطورات نرى على طرف النقيض أن الأغلبية والأقلية يعيشون في أحياء وضواحٍ في مختلف المدن والقرى الهندية في منتهى الود والوئام والانسجام رغم الخطط الرامية لإيجاد التفرقة والانقسام بين الناس على أساس الدين والوطن الأصلي لكل فرد ، ويردد في هذا الصدد ما قاله الزعيم الهندوسي المشهور غورو غولوالكر بأن إيران من أصل العنصر الآري ، وبالتالي هي جزء من وطننا الهندوسي ! ولكننا نريد أن نعرف إلى أي مدى يمكن الإثبات تاريخياً أن الآريين هم من أصول هندوسية ؟

يستحسن هنا أن نستعيد ما قاله زعيم هندوسي آخر عُرف لمواقفه المعتدلة هو سوامي وويكانندا ( 1863 – 1902م ) ، فقد قال في رسالة  له : ( عندي اعتقاد راسخ بأن الفلسفة الهندوسية المعروفة باسم فيدانتا لن تجدي شيئاً ولن تفيد البشرية بدون الاستعانة بدين الإسلام الذي هو دين عملي ) وأضاف قائلاً : ( إن الأمل الوحيد لوطننا بالذات هو أن يحدث نوع من التوافق والتلاقي بين هذين الكيانين العظيمين أي الفيدانتا والإسلام بحيث يكون فيدانتا هو بمثابة المخ أو الفكر والإسلام هو الجسم ) .

هذا ، وإن فلسفة هيندوتفا التي يتمسك بها الحزب الحاكم لايسلم بمبدأ المؤاخاة بين جميع سكان الهند وهو مبدأ منصوص في الدستور الهندي .

وقد بُذلت محاولات في العهد الماضي لتحقيق المساواة بين جميع الطبقات الهندوسية من خلال لجنة مختصة ، وحققت هذه الجهود مكاسب انتخابية ، ولكنها صارت هباءً منثوراً لأن الأمور تقاس الآن بمقياس دين معين وعلى أضيق نطاق ، ومما زاد الطين بلةً أن حركة بناء معبد للإله رام نجحت نجاحاً باهراً ، ورغم كل هذا لا تستطيع الحكومة الحالية أن تبرر أسباب فشل سياساتها إذ أصبحت تواجه بمعارضة شديدة من جبهات عديدة منها المزارعون وقانون تعديل الجنسية وإيجاد سجل قومي لسكان الهند وازدياد البطالة وقضايا أخرى كثيرة تمس حياة الشعب اليومية على جميع المستويات .

وختاماً نريد أن نسأل هل هذا التشبث بأيدلوجية معينة تحقق شيئاً وتحل القضايا بينما الإعلام المحلي والأجنبي يواكبهم في كل خطوة ويفضح شأنهم ؟ أم نُرجع هذا إلى الخبطة العشواء التي يتخبطها مؤيدو هذا الحزب ؟ وهل هذه السياسة ستؤثر على الانتخابات المقرر إجراءها في الولايات وهل سيكون لها تأثير على المدى البعيد ؟ وهل إله هندوتفا في يقظة دائمة لا تأخذه سنة ولا نوم ؟

…………………

ملاحظة : نشر هذا المقال في جريدة هندو اليومية ( The Hindu ) بتاريخ 29/10/2021م ، وهي من أقدم الجرائد في الهند ، وتصدر باللغة الإنجليزية من مدينة تشناي ( مدراس سابقاً ) .