عبد العزيز جاويش الشيخ الذي رفض منصب شيخ الإسلام

في مسيرة الحياة : 48/ سنةً في ظلال تربية الإمام العلامة أبي الحسن الندوي ( الحلقة الثانية )
مارس 15, 2022
الإمام الأعظم أبو حنيفة ومكانته في علم الحديث
أبريل 20, 2022
في مسيرة الحياة : 48/ سنةً في ظلال تربية الإمام العلامة أبي الحسن الندوي ( الحلقة الثانية )
مارس 15, 2022
الإمام الأعظم أبو حنيفة ومكانته في علم الحديث
أبريل 20, 2022

رجال من التاريخ :

عبد العزيز جاويش

الشيخ الذي رفض منصب شيخ الإسلام

الدكتور غريب جمعة – جمهورية مصر العربية

( الحلقة الخامسة )

لم تكن طريق الشيخ في جريدة اللواء مفروشةً بالورود والرياحين ، ولكنها كانت مليئةً بالأشواك والعقبات التي وضعتها الحكومة ومعها المحتلون الإنجليز في طريقه ، فنصبت الشباك من حوله ودبرت له المكائد للوقيعة به حتى تدفعه للوقوف أمام القضاء لمحاكمته فيما ينسب إليه من الاتهامات ، وقد حدث ذلك معه ثلاث مرات ، وقد تحدثنا عن اثنتين   منها ، وتبقى الثالثة وقد عُرفت ” بقضية الكاملين ” ، وخلاصتها :

إن ثورةً قامت في بلدة تدعى الكاملين بالسودان ، وكانت هذه الثورة بقيادة زعيم يدعى الشيخ عبد القادر ود حبوبه ، ولكن الحكومة دفعت قوة من الجيش لإخماد تلك الثورة ونجحت في ذلك وبدأ التنكيل بالثائرين حيث قتلت أعداداً كبيرةً منهم ، وتم القبض على زعيم الثورة ومعه الكثير من أتباعه وقدموا للمحاكمة أمام المحكمة المدنية الكبرى طبقاً لنظام العقوبات بالسودان ، وصدرت أحكام مختلفة عليهم في 23 مايو سنة 1908م حيث حكم على بعضهم بالإعدام وعلى آخرين بالسجن المؤبد ومصادرة أملاكهم ، ولكن الحاكم العام بالسودان بدل حكم الإعدام إلى السجن المؤبد ومصادرة أموال المحكوم عليهم .

وقد وصلت الأنباء إلى مصر عن هذه الثورة وتضاربت الروايات حولها وأمسكت الحكومة عن ذكر أي تفاصيل بشأنها .

ونشرت جريدة اللواء في 28 مايو 1908م خبراً تحت عنوان :

” دنشواي أخرى بالسودان ”

وقد ذكرت وزارة الحرية الخبر ، ولكن جريدة اللواء نشرت مقالاً في عدد مايو 1908م تحت عنوان : ” الحكم على أتباع الزعيم    عبد القادر ود حبوبه ” .

وقد أوضحت الجريدة الشك في بلاغ وزارة الحربية عن عدد المحكوم عليهم وأنه يفوق ما ذكرته وزارة الحربية .

فاعتبرت الحكومة هذا المقال إهانةً للوزارة الحربية كما اعتبرت الخبر الأول إذاعة أخبار كاذبة يترتب عليها تكدير السلم العام ، وأقامت النيابة الدعوى العمومية على الشيخ عبد العزيز لمحاكمته عن التهمتين أمام محكمة عابدين الجزئية التي مثل أمامها الشيخ في شهر يوليو 1908م ، وكانت القضية من القضايا السياسية المهمة التي شغلت الرأي العام في ذلك العهد ، وقد حكمت المحكمة يوم 3 أغسطس 1908م على الشيخ بالبراءة من تهمة نشر الخبر الكاذب ومعاقبته بغرامة قدرها عشرون جنيهاً ( وكانت مبلغاً كبيراً في حينها ) . ولكن النيابة استأنفت الحكم لقلته في نظرها ، واستأنفه الشيخ أيضاً وأعيد النظر في القضية أمام محكمة الجنح المستأنفة التي قضت ببراءة الشيخ ، فكان لهذا الحكم أطيب الأثر على نفوس الجماهير التي استحسنته وأشادت بعدالة المحكمة ، وانهالت البرقيات ورسائل الإعجاب بعدل القضاء وكانت البراءة في هذه القضية نصراً كبيراً لقضية مصر الوطنية وجاء الحكم ضربة شديدة أصابت هيبة الحكومة .

اشتدت مطاردة الحكومة لأنصار الحزب الوطني كما زاد التضييق على صحافتهم وفي مقدمتها جريدة اللواء التي يرأس تحريرها الشيخ عبدالعزيز بسبب مقالاته الرنانة ذات الدوي الذي يسمعه العالم الإسلامي كله حتى إن آخر مقالاته وهو ” دنشواي أخرى في السودان ” أزعج مجلس العموم البريطاني الذي أبدى غيظه من صاحب المقال وكراهيته الشديدة له ، وخصوصاً أنه قد حكمت المحكمة ببراءته ، ووقف إلى جواره كوكبة من عمالقة المحامين الذين أثبتوا للمحكمة أن الكاتب لم يتجاوز أمانة القلم حين بين للناس ما فعله المحتلون بإخوتهم في الدين .

أحس الرجل أن الحكومة تتربص به الدوائر إرضاءً لسادتها الإنجليز فقد تعرض للمحاكم ثلاث مرات وذاق مرارة السجن كل ذلك في سبيل كلمة الحق . . . فليبحث عن مكان آخر وميدان آخر للجهاد في غير تربص أو مطاردة . فهاجر إلى إسطنبول لا ينشد الراحة ، وإنما ينشد الميدان الذي يستأنف فيه جهاده من أجل دينه وأمته ، وتابع الرجل نشاطه فأصدر ثلاث جرائد هي : (1) الهداية  (2) الهلال العثماني (3) الحق يعلو .

وذاع صيت الرجل وانتشرت مقالاته النارية للتنديد بالمحتلين ومحاربتهم والوقوف في طريقهم حتى يرحلوا إلى وطنهم من غير رجعة .

ولم يكن جهاده قاصراً على بلد دون آخر وإنما كان يعتبر الوطن الإسلامي كله ميدان جهاده ، فوقف إلى جانب إخوته في ليبيا حين شنت إيطاليا عدوانها الظالم عليهم ، وقام بحملة كبيرة لجمع التبرعات وإرسال الذخائر والمؤن إليهم حتى يتمكنوا من مقاومة جحافل الجيش الإيطالي المدججة بكافة الأسلحة الفتاكة ، وقام في هذه الحملة بجهد يحسب له عند ربه إن شاء الله تعالى ، وما كادت تشتعل نيران الحرب العالمية الأولى حتى قام الرجل بأسفار وتنقلات عديدة بين ألمانيا وتركيا والشام واسطنبول ، كل ذلك في سبيل تحرير الأوطان الإسلامية الرازحة تحت نير الاحتلال الذي امتص عرقها ، وحرمها حقها في الحرية والعيش الكريم .

كما أصدر مجلات في إسطنبول أصدر مجلةً في جنيف للتعريف بحقوق العالم الإسلامي والدفاع عنها وعن الأمم المستضعفة ، وتمثل ذلك بحضوره المؤتمر الذي عقد باستوكهلم لهذا الغرض النبيل .

تحمل الرجل آلام الغربة وعناء السفر وعناء التنقل وقسوة العيش من بلد إلى آخر مع قلة إمكانياته وضيق ذات يده حتى اضطر في بعض سنوات الحرب وهو في برلين إلى أن يحتطب ليحصل على ما يمسك الرمق من ثمن هذا الحطب . ويعلق على هذا الموقف البطولي الدكتور محمد رجب البيومي فيقول : ” وإني أتصور هذا المجاهد الفذ يعضه الجوع في بلاد الغرب ساعياً وراء مبدئه النبيل فتقطر الدموع من عيني حسرةً على أمة كانت تتخم كل انتهازي مأجور وتُجوع كل حر عيوف ، بل يطرد ويشرد حتى يلجأ إلى الاحتطاب المهين ، وعزاؤه ما ادخره الله من المثوبة لأولي العزم من المجاهدين ” .

وبعد عناء ألقى الرجل عصا الترحال في تركيا وكان له فيها من الشهرة ورفعة المكانة ما دفع كمال أتاتورك إلى تعيينه رئيساً للجنة الشؤون الإسلامية بأنقرة ، ثم تقدم خطوةً أكبر فعرض عليه أن يعينه شيخاً للإسلام في تركيا على أن يفتي بما يرضي أتاتورك حتى لو خالف شرع الله . عندئذ توجس الشيخ خيفةً من أتاتورك وما مكر به بليل لدين الله وما بطش به بعلماء الدين ، بعد مهاجمته للخلافة الإسلامية والقوانين ذات الأصول الدينية ورفض الرجل عرض أتاتورك في إباء وشمم وآثر إرضاء الله على إرضاء هذا الطاغوت . ثم خرج بليل من تركيا متخفياً بحيلة بارعة حتى لا يبطش به ذلك الظلوم الغشوم وعاد إلى مصر محفوفاً بلطف الله .

ونلتقي في حلقة قادمة بإذن الله . . .