المجتمع الإسلامي الواقعي يجذب النفوس

القصة في القرآن : إعجاز علمي و ظاهرة بلاغية
أبريل 20, 2022
تراتيل تفنّد الأكذوبة الكبرى وتحذِّر من فتنة تبديل الدِّين
يونيو 3, 2022
القصة في القرآن : إعجاز علمي و ظاهرة بلاغية
أبريل 20, 2022
تراتيل تفنّد الأكذوبة الكبرى وتحذِّر من فتنة تبديل الدِّين
يونيو 3, 2022

الدعوة الإسلامية :

المجتمع الإسلامي الواقعي يجذب النفوس

بقلم : سماحة الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي

إن الدين الإسلامي هو دين إنسانية واعتدال ، يطلـب مـن أتباعه أن يبقوا بشراً ، ويتجنبوا الرذيلة والطغيان ، فليس عليهم أن يصبحوا ملائكةً لا يعرفون ما هو الجوع ، وما هو المرض ، ولا لهـم أن يبقوا في أخلاق بهيميـة وأهـواء جامحة ، فيصيروا مثـل الحيوانات لا تعرف إلا الأكـل وإشباع رغباتها الحيوانية ، فإن الاعتدال هي السمة الكبيرة لهذا الدين ، والتوسط هي الميزة الكبرى له ، ولقد دل عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سمع أن صحابياً من أصحابه قرر أن يعبد الله تعالى طول الليل ولا ينام ، وقرر صحابي آخر أن يصوم كل يوم طول حياته ، وقرر الثالث ألا يتزوج ولا يحقق رغبته في ذلك ، فقال : لا تفعلوا فإني أكثر عبادة منكم ، ولكـني أعبـد الله في الليل ، وأنام كذلك ، وأصوم وأفطر ، وأتزوج كذلك [1] ، هذا مـن جهة ، ومن جهة أخرى تدل أخباره أنه قال مرةً ، وكان وجـد طعاماً حسب رغبته مع بعض أصحابه : ” هذا والذي نفسي بيـده مـن النعيـم الذي تسألون عنه يوم القيامة [2] ” ، مشيراً إلى الآية القرآنية ( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ ) [3] .

وكلما حاد الإنسان عن هذا الاعتدال والتوسط وقع في الفساد ، فقد وقعت أوربا في قديمها في الرهبانية العاتية ، فقمع الناس فيها رغباتهم الإنسانية الفطرية المباحة طلبـاً للرقي الروحاني ، ولكنه لم يترق في العبودية والتزكية حتى يصل إلى درجة الملائكة ولم يبق بشراً يجوع ويأكل ، ويقع في القذارة فيغسل ، ويتطهر ، ويمرض فيستشفى ويعالج .

أنه يجب أن يكون الإنسان بشراً ، ولكن بالصلاح والتقوى ، وتملي عليه الإنسانية أن يعرف ضعفه البشري ، وحاجته ، وراحتـه ، وآلامه في الدنيا ، ويعرف مسئولية أواصر القرابة والجـوار ، ويشعر بآلام نفسه البشرية ، وبآلام غيره ممن يعاشرهم في حياته ، هذا في ناحية ، وفي ناحية أخرى يطلب السعادة والخير في الآخرة ، يطلـب رضا ربه بالأعمال الحسنة ، فإن طلبه لخير الآخرة يحفظه من الفساد والطغيان ، وإن طلبه لما يحتاجه لحياته في الدنيا يحفظه من أن يقع في رهبانية  مهلكة .

لقد وقعت أوربا قديماً في رهبانية شديدة ، وحرمت نفسها من خيرات الحياة الدنيا ، ثم تمردت أخيراً على طلب الخير في الآخرة ، فوقعت في مادية رعناء ، وفي مساقط الرغبات الجامحة ، فمرت أوربا من تجربتين متعارضتين ، وهي الآن بحاجة إلى تجربـة التوسـط والاعتدال ، ولا يمكن أن تحصـل لها هذه التجربة إلا في الإسلام ، ولكن كيف تحصل لها هذه التجربة ، وأين تجدها ، وتطلع عليها ، فإنما المسئولية في ذلك على المسملين أن يتقدموا إلى أوربا بتعريف الإسلام ، وبيان خيراته ، وحسناته على الإنسانية ، ولا يمكن المسلمين ذلك إلا إذا كانوا هم أنفسهم متحلين بالأخلاق الإسلامية الصحيحة بدون أن تكون فيهم مغالاة في جانب ، وتقصير في جانب آخر ، يجب أن يتقدموا إلى غير المسلمين بوجه إنساني فاضل ، وحياة إنسانية كريمة ، متمثلين بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ، كيف كانوا يعاملون الناس ، وكيف كانوا يدعونهم إلى الخير والهدى ، كيف كانوا يغضبون عند ما كان الأمر يستدعي الغضـب  ، وكيف كانوا يتلطفـون عندما كان الأمر يستدعي التلطف .

لقد انغمست أوربا في شهواتها وتحررت من التزامـات إنسانية ، ودينية كثيرة ، فوقعت فريسةً لشقاء إنساني وانهيار خلقي شديدين ، فهي بحاجة إلى من يمسك بيديها ، وينقذها من شقائها .

إن الغرب المسيحي اليوم قد ضجر من حياته المادية الملحـدة بسبب رتابتها وخلوها من العواطف الإنسانية الرقيقة ، وقد بعدت صلته بالدين المسيحي لعدم استطاعته بملأ كل فراغ ديني في حياته . فهو هائم في طلب دين يمسكه من السقوط والتخبط في مهامه الحيـاة ولا يسعفه في ذلك إلا الدين الإسلامي .

ولكن الدين الإسلامي الذي يقدمه بعضنا إليه اليوم هو دين الجدل والضرب أكثر من أن يكون دين الفضيلة والبر ، وما دمنا نظهر للغرب وجه العنف والجدل للإسلام ، فلن نجـد مـن الغـرب رداً إلا بالإعراض والمقت .

إنه يحب أن نعرض الإسلام على الغرب كدين منقذ من الويلات الخلقية والاجتماعية للحياة المعاصرة ، التي ضجت نفوس الغربيين عنها ، وأرادوا الهروب منها ، واللجوء إلى حلول ظاهرة تبدو لأقطار الغرب في الشرق والغرب ، ففي هذه الحالة إذا لم يظهر أمام الغرب وجه الإسلام الصافي المواسي الرفيق ، فلن يجذب الإسـلام نفوسهم وقلوبهم ، وهم سيستمرون في اللجـوء إلى كل ملجأ ومغارة يظنون فيها شفاءً لأسقامهم ، مثل الرهبانية البرهمية ، أو البويهـميـة الهاملة ، ونجد لها أمثلةً كثيرةً في كل مكان ، وتقع المسئولية على الدعاة المسلمين لأنهم لا يختارون الطريقة الصحيحة اللائقة للدعوة إلى الإسلام ، مع أن مسئولية الدعوة خاصة بهم ، لقوله سبحانه وتعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ ) [4] .

لقد انقسم العاملون للإسلام اليوم إلى أقسام : فمنهم من يتزعم إعطاء فكرة الضرب والحرب للإسلام ، ولا يكتفي في ذلك بالإظهار العملي وحده ، بل يجعله من أساسيات الإسلام ، يفعل ذلك بدون أن يرى سيرة الرسول عليه السلام ، ومنهاجه في ذلك ، فلقـد احـترز صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين مع علمه بأنهم أشد عداء من الكفار ، وذلك لئلا يقال ” أن محمداً يقتل أصحابه ” [5] ، وبذلك كان يصون الإسلام من شهرة غير حسنة ، وكان يقبل من الرجل قوله لا إله إلا الله ، فقد قال في حالة مخالفة لذلك : ” أفلا شققت عن قلبه ” [6] .

وقسم من العاملين للإسلام يعكفون على شرح الإسـلام نظرياً وحده ، ويعكفون على تنظير الإسلام بشكل يجعله شبيهاً بالنظريات الغربية في الحياة ، مع أن الغربيين أتخمـوا مـن النظريات ، وكادوا يضربونـهـا عـرض الحائط ، لأنـها لا تسعفهم في إدخال الراحـة والطمأنينة إلى قلوبهم ، ولذلك يهجرون حياةً بُنيـت علـى هـذه النظريات ، وقد يلجأون إلى الحياة الهاملة ، تاركين كل شيئ حتى حاجيات الحياة ، لقد تقدم الغرب وبلغ أوج رقيه في النظم السياسية والاقتصادية والقوة العسكرية ، ووسائل المعيشة ، وازدهار المدنية ، وحاول بكل ذلك حل مشكلاته الإنسانية ، وإزالة همومه النفسية ، ولكنه لم يعد من محاولته هذه بطائل ، وأصبح شباب الغرب يـحيدون في كل مجال يظنون فيه حلاً لعقدهم ، وذلك لأن الاضطراب الخلقي والفراغ النفسي الذي يعاني منه أبناء الغرب اليـوم ، إنما هو نتيجة حضارتهم هذه المتحررة من الالتزامات الخلقية والدينية ، وهي سبب اضطراب ميزان السعادة النفسية لحياتهم . وهـو سـبب مرضهم وسقامهم ، ولا ينفع فيه إلا العودة إلى تعاليم الأنبياء وخاصـةً تعاليم خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم الذي دعا إلى تأكيد الصلة بالخالق ، وإلى الاعتدال في الاستفادة بوسائل الراحة ، فلا تكالب على اللذات ، ولا الاستمتاع بكل وسائل المتعة والراحة ، ولا حاجة إلى اختيار الرهبانية ، والتخلي من حاجيات الحياة فقد قال الله تعالى : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِى ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ) [7] ، إنما النظر الصحيـح إلى الحيـاة أنه نعيم محدود ، وزائل ، وأنه متاع الغـرور فـلا يؤخـذ إلا بالاعتدال ولا يربط به القلب حتى يصعب تركه .

فالغرب لا يرغب اليوم إلى نظام اقتصادي جديد ، بدلاً من نظامه الاقتصادي الذي توصل إليه ، ولا إلى نظام سياسي جديد ، بدلاً من نظامـه السياسي الذي اختاره ، لأنه جرب أنواعـاً راقيـةً مـن الأنظمة ، ووصل إلى أقصى ما بلغ به علمه ودراسته وفهمه ، فهو غير راغب إلى مزيد جديد منها ، لأنه لا يجد حلاً لمشكلاته فيها ، إنما يرغب الغرب إلى السكينة القلبية والراحة النفسية التي لا يتكفل بها ونظامه للاقتصاد ، ونظامه للسياسة لديه ، إنما يتكفل بها تلك الفضائل والآداب السماوية التي دل عليها وهـدى إليها رسل الله سبحانه تعالى وخاتمهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، وهي التي تعوز بيئـات العـالم الإنساني اليوم .

وعلى الداعي إلى الفضيلة والحق أن تكون حياته مثالاً للمنهج المعتدل الجامع للاستفادة من وسائل الحياة ، واتخاذ نظرة صحيحة لتقييم هذه الوسائل ، وذلك يحصل بالأمثلة العملية أكثر من الشرح العلمي مع أن الشرح العلمي له مكانـة لا يستهان بها في دعـم هـذه النظرة  ومساندتها .

فهل يسعنا أن نعرض الإسلام على الناس بطريقة موافقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسنة صحابته الأولين ، إذ ليس في غيرهما عـلاج .

[1] عن أنس رضي الله عنه قال : ” جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أخبروا كأنهم تقالوها وقالوا أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، قال أحدهم : أما أنا فأصلي الليل أبـداً ، وقال الآخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال الآخر : وأنا اعـتزل النسـاء فلا أتزوج أبداً ، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم إليـهـم فـقـال : أنتـم الذين قلتم كذا وكذا ، أما والله إنني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مـني ( البخاري : 5063 ومسلم : ١٤٠١ ) .

[2] مسلم في كتاب الأشربة ، رقم : ٢٠٣٨ ، والترمذي في الزهد ، رقم : 2369 .

[3] التكاثر : 8 .

[4] آل عمران : 110 .

[5] صحيح البخاري ، كتاب المناقب ، رقم : 3518 ، وصحيح مسلم ، أبواب البر ، رقم : 6583 .

[6] صحيح مسلم ، كتاب الإيمان ، رقم : 158 .

[7] الأعراف : 32 .